وقال مجاهدٌ -Bه- معلِّماً للخَيْر.
وقال عطاءٌ : أدعُو إلى الله، وإلى توحيده وعبادته.
وقيل : مُباركاً على من اتَّبعني.
روى قتادةُ أنَّ امرأةً رأتهُ، وهو يحيى الموتى، ويُبْرِئ الأكمه والأبرص، فقالت : طُوبَى لبطن حملك، وثدي أرضعت به، فقال عيسى مجيباً لها : طُوبَى لمن تلا كتابَ اللهِ واتبعَ ما فِيهِ، وعملَ بِهِ، ولمْ يَكُنْ جبَّاراً شَقِيَّاً.
قوله تعالى :﴿ أَيْنَ مَا كُنتُ ﴾ يدلُّ على أن حاله لم يتغيَّر كما قيل : إنَّه عاد إلى حالِ الصِّغَر، وزوالِ التَّكْلِيف.
قوله :﴿ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة ﴾ : هذه شرطيةٌ، وجوابها : إمَّا محذوفٌ مدلولٌ عليه بما تقدَّم : أي : أينما كُنْتُ، جعلني مباركاً، وإمَّا متقدِّمٌ عند من يرى ذلك، ولا جائزٌ أن تكون استفهاميةٌ؛ لأنَّه يلومُ أن يعمل فيها ما قبلها، وأسماءُ الاستفهامِ لها صدرُ الكلامِ، فيتعيَّنُ أن تكون شرطيةٌ؛ لأنها منحصرةٌ في هذين المعنيين.
ثم قال :﴿ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة ﴾ أي، أمرني بهما.
فإن قيل : لم يكُن لعيسى مالٌ، فكيف يؤمرُ بالزَّكاة؟ قيل : معناه : بالزَّكاة، لو كان له مالٌ.
فإن قيل : كيف يُؤمَرُ بالصَّلاة والزَّكاة، مع أنَّه كان طفلاً صغيراً، والفلمُ مرفوعٌ عن الصَّغير؛ لقوله- صلوات الله عليه وسلامه- :« رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ » الحديث.
فالجوابُ من وجهين :
الأول : أنَّ قوله :﴿ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة ﴾ لا يدلُّ على أنَّه تعالى أوصاهُ بأدائهما في الحالِ، بل بعد البُلُوغِ، فيكونُ المعنى على أنَّه تعالى أوصَانِي بأدائهما في وَقْت وجوبهما عليَّ، وهو وقتُ البُلُوغِ.
الثاني : لعلَّ الله تعالى، لمَّا انفصل عيسى عن أمِّه- صلوات الله عليه- صيَّرهُ بالغاً، عاقلاً، تامَّ الخلقة؛ ويدلُّ عيه قوله تعالى :﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ] فكما أنَّه تعالى خلق آدم- صلواتُ الله عليه وسلامه- تامَّا كاملاً دفعةً، فكذا القولُ في عيسى صلوات الله عليه وهذا أقربُ إلى ظاهر اللَّفْظ، لقوله :﴿ مَا دُمْتُ حَيّاً ﴾ فإنَّه يفيدُ أنَّ هذا التَّكليف متوجِّه عليه في جميع زمانِ حياته، ولكن لقائل أن يقول : لو كان الأمرُ كذلك، لكان القومُ حين رأوهُ، فقد رأوه شخصاً كامل الأعضاء، تامَّ الخِلْقَة، وصدورُ الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكونُ عجباً؛ فكان ينبغي ألاَّ يَعْجَبُوا.
والجوابُ أن يقال : إنَّه تعالى جعله مع صِغَرِ جثَّته قويَّ التركيب، كامِلَ العَقْلِ، بحيثُ كان يمكنه أداءُ الصَّلاة والزَّكاة، والآيةُ دالَّة على أنَّ تكليفه لم يتغيَّر حين كان في الأرض، وحين رُفع إلى السَّماء، وحين ينزل مرَّة أخرى؛ لقوله ﴿ مَا دُمْتُ حَيّاً ﴾.