والمعنى الثاني : أنه رآها بعد جَهد، والتشبيه على هذا صحيح، لأنه مع شدة الظلمة إذا أحدَّ نظره إلى يده وقرَّبها من عينه رآها انتهى.
أما الوجه الأول وهو ما ذكره أن قول الأكثرين ( إنه يكون نَفْيُها إثباتاً، فقد تقدم أنه غير صحيح، وليس هو قول الأكثر ) وإنما غرّهم في ذلك آية البقرة، وما أنشد بعضهم :
٣٨٣٨- أَنَحْوِيَّ هَذَا العَصْرِ مَا هِيَ لَفْظَةٌ... البيتين.
وأما ما ذكره من زيادة « كاد » فهو قول أبي بكر وغيره، ولكنه مردود عندهم.
وأما ما ذكره من المعنى الثاني، وهو أنه رآها بعد جهد، فهو مذهب الفراء والمبرد. والعجب كيف يعدل عن المعنى الذي أشار إليه الزمخشري، وهو المبالغة في نفي الرؤية.
وقال ابن عطية ما معناه : إذا كان الفعل بعد « كاد » منفيًّا دلَّ على ثبوته، نحو :« كاد زيد لا يقوم »، أو مثبتاً دلَّ على نفيه، نحو :« كاد زيد يقوم » وتقول :« كَادَ النَّعام يَطِير » فهذا يقتضي نفي الطيران عنه، فإذا قلت :« كاد النعام ألا يطير » وجب الطيران له، وإذا تقدم النفي على « كاد » احتمل أن يكون موجباً وأن يكون منفياً، تقول :« المفْلُوجُ لا يكاد يَسْكُنُ » فهذا يتضمَّن نفي السكون، وتقول :« رجل مُنْصَرِفٌ لا يكاد يَسْكُنُ » فهذا تضمن إيجاب السكون بعد جَهْدٍ.

فصل


اعلم أن الله تعالى بين أنَّ أعمال الكفار إن كانت حسنةً فمثلها السراب، وإن كانت قبيحةً فهي الظلمات، وفيه وجه آخر، وهو أن أعمالهم إما كسراب بقيعة وذلك في الآخرة، وإما كظلمات في بحر وذلك في الدنيا. وقيل : إن الآية الأولى في ذكر أعمالهم، وأنهم لا يَحْصلون منها على شيء، والآية الثانية في ذكر عقائدهم، فإنها تشبه الظلمات، كما قال :( ﴿ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور ﴾ ) [ البقرة : ٢٥٧ ] أي : من الكفر إلى الإيمان، يدل عليه قوله تعالى :﴿ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ ﴾.

فصل


وأما تقرير المثل فهو أن البحر اللجي يكون قعره مظلماً جداً بسبب غور الماء، فإذا ترادفت عليه الأمواج ازدادت الظلمة، فإذا كانت فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى، فالواقع في قعر هذا البحر اللُّجِّيّ في نهاية شدة الظلمة. ولما كانت العادة في اليد أنها من أقرب ما يراها، وأبعد ما يظن أنه لا يراها، فقال تعالى :﴿ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ﴾ فبين سبحانه بهذا بلوغ تلك الظلمة التي هي أقصى النهايات، ثم شبه الكافر في اعتقاده، وهو ضد المؤمن في قوله تعالى :﴿ نُّورٌ على نُورٍ ﴾ [ النور : ٣٥ ] وفي قوله :﴿ يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ﴾


الصفحة التالية
Icon