وجوَّز أبو البقاء أن يكون جمع « مِفْتَح » بالكسر، وهو الآلة، وأن يكون جمع « مَفتح » بالفتح، وهو المصدر بمعنى الفتح. والأول أقيس. وقرأ أبو عمرو في رواية هارون عنه :« مِفْتَاحَهُ » بالإفراد، وهي قراءة قتادة.
قوله :« أَوْ صَدِيقكُمْ ». العامة على فتح الصاد. وحُمَيد الجزَّارُ روى كسرها إتباعاً لكسرة الدّال والصديق : يقع للواحد والجمع كالخليط والفطين وشبههما.
فصل
الصديق : الذي صدقك في المودة. قال ابن عباس : نزلت في الحارث بن عمرو خرج غازياً مع رسول الله - ﷺ - وخلف مالك بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهوداً، فسأله عن حاله فقال : تحرجت من أكل طعامك بغير إذنك، فأنزل الله هذه الآية وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والتحرم بطعامه من غير استئذان منه في الأكل بهذه الآية. والمعنى : ليس عليكم جناح أن تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا من غير أن تتزودوا وتحملوا. يحكى أن الحسن دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد أخرجوا سلالاً من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة مكبون عليها يأكلون، فتهلل أسارير وجهه سروراً وضحك، وقال :« هكذا وجدناهم » يعني : كبراء الصحابة. وعن ابن عباس : الصديق أكبر من الوالدين، لأن أهل جهنم لمّا استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات، بل قالوا :﴿ مَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴾ [ الشعراء : ١٠٠ - ١٠١ ].
وحكي أن أخا الربيع بن خيثم دخل منزله في حال غيبته فانبسط إلى جاريته حتى قدمت إليه ما أكل، فلما قدم أخبرته بذلك، فانسر لذلك وقال : إن صدقت فأنت حرة.
فصل
احتج أبو حنيفة بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع، لأن الله تعالى أباح لهم الأكل من بيوتهم، ودخولها بغير أذنهم، فلا يكون ماله محرزاً منهم. فإن قيل : فيلزم ألا يقطع إذا سرق من مال صديقه؟
فالجواب : من أراد سرقة ماله لا يكون صديقاً له.
قوله :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً ﴾ قال الأكثرون : نزلت في بني ليث بن عمرو حي من كنانة، كان الرجل منهم لا يأكل وحده، ويمكث يومه حتى يجد ضيفاً يأكل معه، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئاً، وربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح، وربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه، فإذا أمسى ولم يجد أحداً أكل. هذا قول قتادة والضحاك وابن جريج. وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس : كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه، فيقول : والله إني لأحتج، أي : أتحرج أن آكل معك، وأنا غني وأنت فقير، فنزلت هذه الآية وقال عكرمة وأبو صالح :« نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلاّ مع ضيفهم، فرخص لهم في أن يأكلوا كيف شاءوا جميعاً مجتمعين، أو اشتاتاً متفرقين ».