﴿ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴾ [ الدخان : ٣ ]، و « نذيراً » الظاهر فيه أنه بمعنى منذر، وجوَّزوا أن يكون مصدراً بمعنى الإنذار كالنكير بمعنى الإنكار، ومنه ﴿ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴾ [ القمر : ١٦ ] فإن قوله :« تبارك » يدل على كثرة الخير والبركة، فالمذكور عقيبه لا بد وأن يكون سبباً لكثرة الخير والمنافع، والإنذار يوجب الغم والخوف، فكيف يليق ذكره بهذا الموضع؟ فالجواب : أن الإنذار يجري مجرى تأديب الولد، كما أنه كلما كانت المبالغة في تأديب الولد أكثر ( كان الإحسان إليه أكثر، لما أن ذلك يؤدي في المستقبل إلى المنافع العظيمة، فكذا ههنا كلما كان الإنذار كثيراً ) كان رجوع الخلق إلى الله أكثر، وكانت السعادة الأخروية أتم وكثر، وهذا كالتنبيه على أنه لا التفات إلى المنافع العاجلة؛ لأنه تعالى لما وصف نفسه بأنه معطي الخيرات الكثيرة لم يذكر إلا منافع الدين، ولم يذكر منافع الدنيا البتّة.
قوله :﴿ الذي لَهُ مُلْكُ ﴾ يجوز في « الّذِي » الرفع نعتاً للذي الأول، أو بياناً، أو بدلاً، أو خبراً لمبتدأ محذوف، أو النصب على المدح.
وما بعد بدل من تمام الصلة فليس أجنبياً، فلا يضر الفصل به بين الموصول الأول والثاني إذا جعلنا الثاني تابعاً له.
فصل
﴿ الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض ﴾ إشارة إلى احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه حال حدوثها، وأنه سبحانه هو المتصرف فيها كيف يشاء.
﴿ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ﴾ أي : هو الفرد أبداً، ولا يصح أن يكون غيره معبوداً ووارثاً للملك عنه، وهذا رد على النصارى. ﴿ ولم يكن له شريك في الملك ﴾ أي : هو المنفرد بالإلهية، وإذا عرف العبد ذلك انقطع رجاؤه عن كل ما سواه، ولم يشتغل قلبه إلا برحمته وإحسانه، وفيه رد على الثنوية، والقائلين بعبادة النجوم والأوثان.
قوله :﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ الخلق هنا عبارة عن الإحداث والتهيئة لما يصلح له، لا خلل فيه ولا تفاوت حتى يجيء قوله :« فقدره تقديراً » مفيداً إذ لو حملنا ﴿ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ على معناه الأصلي من التقدير لصار الكلام : وقدر كل شيء فقدره.
فصل
قوله :﴿ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ يدل على أنه تعالى خلق الأعمال من وجهين :
الأول : أن قوله :« كل شيء » يتناول جميع الأشياء، ومن جملتها أفعال العباد.
والثاني : أنه تعالى نفى الشريك، فكأن قائلاً قال : ههنا أقوام معترفون بنفي الشريك والأنداد ومع ذلك يقولون بخلق أفعال أنفسهم، فذكر الله تعالى هذه الآية رداً عليهم. قال القاضي : الآية تدل عليه لوجوه :
أحدها : أنه تعالى صرح بكون العبد خالقاً فقال :﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير ﴾ [ المائدة : ١١٠ ]، وقال :﴿ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين ﴾ [ المؤمنون : ١٤ ] وتمدح بأنه قدره تقديراً، ولا يجوز أن يريد به إلا الحسن والحكمة دون غيره. فظاهر الآية لا يدل إلا على التقدير، لأن الخلق عبارة عن التقدير، فلا يتناول إلا ما يظهر فيه التقدير وهو الأجسام لا الأعراض. والجواب : أن قوله :« إِذْ تَخْلُقُ »، وقوله :« أَحْسَنُ الخَالِقِينَ » معارض بقوله :﴿ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [ الزمر : ٦٢ ] وبقوله :﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله ﴾ [ فاطر : ٣ ] وقولهم : لا يجوز التمدح بخلق الفساد، فالجواب : لم لا يجوز أن يتمدح به من حيث نفاذ القدرة.