قوله :﴿ رَبِّ ارجعون ﴾. في قوله :« ارْجِعُونِ » بخطاب الجمع ثلاثة أوجه :
أجودها : أنه على سبيل التعظيم كقوله :

٣٨٠٧- فَإِنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ وَإِنْ شِئْتُ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً وَلاَ بَرْدَا
وقال الآخر :
٣٨٠٨- أَلاَ فَارْحَمُونِي يَا إلهَ مُحَمَّدٍ... وقد يؤخذ من هذا البيت ما يرّد على ابن مالك حيث قال : إنه لم نعلم أحداً أجاز للداعي أن يقول : يَا رَحْيَمُون قال : لئّلا يُوهم خلاف التوحيد، وقد أخبر تعالى عن نفسه بهذه الصفة وشبهها للتعظيم في مواضع من كتابه الكريم كقوله :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [ الحجر : ٩ ].
الثاني : أنه نادى ربه ثم خاطب ملائكة ربه بقوله :« ارْجِعُونِ ». ويجوز على هذا الوجه أن يكون على حذف مضاف، أي : ملائكة ربي، فحذف المضاف ثم التف إليه في عود الضمير كقوله :﴿ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ﴾ [ الأعراف : ٤ ]. ثم قال :﴿ أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ ﴾ [ الأعراف : ٤ ] التفاتاً ل « أهل » المحذوف.
الثالث : أنّ ذلك يدل على تكرير الفعل كأنه قال : ارْجعنِي ارجعنِي نقله أبو البقاء وهو يشبه ما قالوه في قوله :﴿ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ ﴾ [ ق : ٢٤ ] أنه بمعنى : أَلْقِ أَلْقِ ثنّى الفعل للدلالة على ذلك، وأنشدوا :
٣٨٠٩- قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِل... أي : قف قف.

فصل


اعلم أنّه تعالى أخبر أنَّ هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت فقال :﴿ حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت ( قَالَ رَبِّ ارجعون ﴾ ) ولم يقل : ارجعني، وهو يسأل الله وحده الرجعة لما تقدّم في الإعراب. وقال الضحّاك : كنت جالساً عند ابن عباس فقال : مَنْ لَمْ يُزَكِّ ولم يَحُج سأل الرجعة عند الموت، فقال رجل : إنما يسأل ذلك الكفار. فقال ابن عباس : أنا أقرأ عليك به قرآناً ﴿ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولاا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ﴾ [ المنافقون : ١٠ ].
وقال عليه السلام :« إذا حضر الإنسان الموت جمع كل شيء كان يمنعه من حقه بين يديه فعنده يقول :﴿ رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ ».
واختلفوا في وقت مسألة الرجعة، فالأكثرون على أنه يسأل حال المعاينة وقيل : بل عند معاينة النار في الآخرة، وهذا القائل إنَّما ترك ظاهر هذه الآية لمَّا أخبر الله - تعالى - عن أهل النار في الآخرة أنهم يسألون الرجعة.
قوله :﴿ لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ أي : ضيّعتُ. أي : أقول لا إله إلاَّ الله.
وقيل : أعمل بطاعة الله تعالى. وقيل : أعمل صالحاً فيما قصّرتُ، فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية، وهذا أقرب، لأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه. فإن قيل : قوله تعالى :﴿ لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً ﴾ كيف يجوز أن يسأل الرجعة مع الشك.
فالجواب : ليس المراد ب « لَعَّلَ » الشك فإِنَّه في هذا الوقت باذل للجهد في العزم على الطاعة إن أعطي ما سأل، فهو مِثْل من قَصّر في حق نفسه، وعرف سوء عاقبة ذلك التقصير، فيقول : مكنُونِي من التدارك لعلى أتدارك فيقول هذه الكلمة مع كونه جازماً بأنه سيتدارك.


الصفحة التالية
Icon