والثاني : أنه عطف على الضمير المرفوع في « نُؤْمِنُ »، وحسَّنَ ذلك الفصل بالجار، و « الأَرْذَلُونَ » صفته.
وقرأ اليمانيُّ :« وأَتْبَاعِكَ » بالجر عطفاً على الكاف في « ذَلِكَ » وهو ضعيف أو ممنوع عند البصريين، وعلى هذا فيرتفع « الأَرْذَلُونَ » على خبر ابتداء مضمر، أي : هم الأرذلون وقد تقدم مادّةُ « الأَرْذَلِ » في هود.
فصل
الرذالة : الخِسَّة والذِّلة، وإنما استرذلوهم لاتّضاع نسبهم وقلة نصيبهم في الدنيا.
وقيل : كانوا من أهل الصناعات الخسيسة كالحياكة والحِجَامَة.
وهذه الشبهة في غاية الركاكة، لأن نوحاً - عليه السلام - بعث إلى الخلق كافة، فلا يختلف الحال بسبب الفقر والغنى وشرف المكاسب وخستها، فأجابهم نوح عنه بالجواب الحق، وهو قوله :﴿ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي : ما أعلم أعمالهم وصنائعهم، وليس عليّ من دناءة مكاسبهم وأحوالهم شيء، إنما كُلِّفت أن أدعوهم إلى الله ولي منهم ظاهر أمرهم.
قوله :« وَمَا عِلْمِي » يجوز في « مَا » وجهان :
أظهرهما : أنها استفهامية في محل رفع بالابتداء، و « عِلْمِي » خبرها، والباء متعلقة به.
والثاني : أنها نافية، والباء متعلقة ب « علمي » أيضاً، قاله الحوفي. ويحتاج إلى إضمار خبر ليصير الكلام به ( جملة ).
قوله :﴿ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبِّي ﴾ « إِنْ » نافية، أي : ما حسابهم إلا على ربي، ومعناه : لا نعتبر إلا الظاهر من أمرهم دون ما يخفى.
قوله :« لَوْ تَشْعُرُوْن » جوابها محذوف، ومفعول « تشعرون » أيضاً، والمعنى « لَوْ تَشْعُرُونَ » تعلمون ذلك ما عبتموهم بصنائعهم.
قال الزجاج : الصناعات لا تَضُرُّ في الدِّيَانَاتِ. وقيل : معناه : إني لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم، ويوفقهم ويخذلكم.
وقرأ الأعرج وأبو زُرعة :« لَوْ يَشْعُرُونَ » بياء الغيبة، هو التفات، ولا يحسُنُ عَوْدُه على المؤمنين.
قوله :﴿ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين ﴾ وذلك كالدلالة على أن القوم سألوه إبعادهم فبيّن أن الدين يمنعه عن طردهم، وقد آمنوا به، وبيَّن أن الغرض من تحمل الرسالة كونه نذيراً : فقال :﴿ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ أي : إني أُخَوِّف من كذبني ولم يقبل مني، فمن قبل فهو القريب، ومن رد فهو البعيد، فلما أجابهم بهذا الجواب لم يكن منهم إلا التهديد فقالوا :﴿ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المجرمين ﴾.
قال مقاتل والكلبي : من المقتولين بالحجارة.
وقال الضحاك : من الشمئومين. فعند ذلك حصل اليأس لنوح من فلاحهم، وقال :﴿ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ﴾. وليس الغرض منه إخبار الله تعالى بالتكذيب لعلمه بأنه عالم الغيب والشهادة، ولكنه أراد : لا أدعوك عليهم لما آذوني، وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك ولأنهم كذبوك في وحيك ورسالتك :﴿ فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً ﴾ أي : فاحكم بيني وبينهم.