فصل
والمراد ب « مَنْ » إما الباري تعالى، وهو على حذف مضاف، أي من قدرته وسلطانه في النار، وقيل المراد به موسى والملائكة، وكذلك ب « مَنْ حَوْلَهَا »، وقيل المراد ب « مَنْ » غير العقلاء وهو النور والأمكنة التي حولها، فالأول من مروي عن ابن عباس، وروى مجاهد عنه أنه قال : معناه بوركت النار. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أيضاً، قال : سمعت أبيّاً يقرأ :﴿ أَنْ بُورِكَتِ النَّارُ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ و « مَنْ » : قد تأتي بمعنى ( ما ) كقوله :﴿ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ ﴾ [ النور : ٤٥ ]، و ( مَا ) قد تكون صلة في الكلام، كقوله :﴿ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ ﴾ [ ص : ١١ ]، ومعناه : بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وفيمَنْ حَوْلَهَا وهم الملائكة وموسى عليهم السلام، وقال الزمخشري :﴿ بُورِكَ مَن فِي النار ﴾ : بورك من في مكان النار ومن حولها : مكانها، ومكانها : هي البقعة التي حصلت فيها، وهي البقة المذكورة في قوله تعالى :﴿ مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن فِي البقعة المباركة ﴾ [ القصص : ٣٠ ] وتدل عليه قراءة أبيّ.
قوله :« وَسُبْحَانَ اللَّهِ » فيه أوجه :
أحدها : أنه من تتمّة النداء : أي : نودي بالبركة وتنزيه ربِّ العزَّة، أي : نودي بمجموع الأمرين.
الثاني : أنه من كلام الله تعالى مخاطباً لنبينا محمد - ﷺ -، وهو على هذا اعتراض بين أثناء القصة.
الثالث : أنّ معناه وبُورِكَ من سَبَّحَ اللَّهَ، يعني أنه حذف ( مَنْ ) وصلتها، وأبقى معمول الصلة، إذ التقدير : بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا، ومن قال : سُبْحَانَ اللَّهِ و « سُبْحَانَ » في الحقيقة ليس معمولاً لقال، بل لفعل من لفظه، وذلك الفعل هو المنصوب بالقول.
فصل
روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن في قوله :﴿ بُورِكَ مَن فِي النار ﴾ يعني : قُدِّس من في النار، وهو الله، عنى به نفسه على معنى : أنه نادى موسى منها، وأسمعه كلامه من جهتها، كما روي أنه مكتوب في التوراة :« جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلى من جبال فران »، فمجيئه من سيناء بعثته موسى منها، ومن ساعير بعثته المسيح، ومن جبال فاران بعثته المصطفى منها، وفاران : مكة. وهل كان ذلك نوره تعالى؟
قال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها، والنار إحدى حجب الله تعال، كما جاء في الحديث :« حجابُهُ النَّارُ لَوْ كَشَفَهَا لأَحْرَقَتَ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ ما انتهى إليه بَصَرُهُ من خلقه » والسبب الذي لأجله بوركت البقعة، وبورك من فيها وحواليها : حدوث هذا الأمر العظيم فيها، وهو تكليم موسى وجعله رسولاً، وإظهار المعجزات عليه، ولهذا جعل الله أرض الشام موسومة بالبركات في قوله :﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [ الأنبياء : ٧ ] وحقت أن تكون كذلك، فهي مبعث الأنبياء عليهم السلام ومهبط الوحي، وكفاتهم أحياء وأمواتاً.