ولما نزه نفسه، - وهو المنزه من كل سوء وعيب - تعرف إلى موسى بصفاته في قوله :﴿ ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم ﴾. في اسم « إنَّ » وجهان : أظهرهما أنَّه ضمير الشأن ( « وَأَنَّا اللَّهُ » مبتدأ ) وخبره، و « العزيز الحَكِيمُ » صفتان لله.
والثاني : أنه ضمير راجع إلى دلَّ عليه ما قبله، يعني : إن مكلِّمك أنا، و « الله » بيان ل « أَنَا »، و « العَزِيزُ الحَكِيمُ » : صفتان للبيان قاله الزمخشري. قال أبو حيان، وإذا حذف الفاعل وبني الفعل للمفعول فلا يجوز أن يعود الضمير على ذلك المحذوف : إذ قد غيِّر الفعل عن بنائه له وعزم على أن لا يكون محدِّثاً عنه، فعود الضمير إليه ممَّا ينافي ذلك؛ إذ يصير معتنًى به. قال شهاب الدين : وفيه نظر، لأنه قد يلتفت إليه، وقد تقدم ذلك في البقرة عند قوله :﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ ﴾ [ البقرة : ١٧٨ ]، ثم قال :« وَأَدَاءٌ إلَيْهِ »، قيل : إلا الذي عفي له وهو وليُّ الدم ما تقدم تحريره ولئن سلِّم ذلك، فالزمخشري لم يقل إنه عائد على ذلك الفاعل، إنما قالك راجع إلى ما دل عليه ما قبله يعني من ( السِّياق ).
وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون ضمير ربِّ : أي : إن الرب أنا الله، فيكون « أنَا » فصلاً أو توكيداً أو خبر إن، والله بدل منه. وقيل : الهاء في قوله « إنَّهُ » عماد، وليست كناية، فإن قيل : هذا النداء قد يجوز أن يكون من عند غير الله، فكيف علم موسى أنه من الله؟
فالجواب : لأهل السنة فيه طريقان : الأول : أنه سمع الكلام المنزه عن مشابهة كلام المخلوقين، فعلم بالضرورة أنه صفة الله.
الثاني : قول أئمة ما وراء النهر، وهو أنه - عليه السلام - سمع الصوت من الشجرة، فنقول : إنما عرف أن ذلك من الله تعالى لأمور :
أحدها : أن النداء إذا حصل في النار أو الشجرة، علم أنه من قبل الله تعالى : لأن أحداً منا لا يقدر عليه، وهذا ضعيف، لاحتمال أن الشيطان دخل في النار والشجرة، ثم نادى.
والثاني : يجوز في نفس النداء أن يكون قد بلغ في العظم مبلغاً لا يكون إلا معجزاً، وهو أيضاً ضعيف، لأنا لا نعرف مقادير قوى الملائكة والشياطين، فلا قدر إلا ويجوز صدوره منهم.
وثالثها : أنه قد يقترن به معجز دل على ذلك، وقيل : إن النار كانت مشتعلة في شجرة خضراء لم تحترق، فصار ذلك لكالمعجزة وهذا أيضاً في غاية الضعف والبعد، لأنه كيف تنادي النار أو الشجرة، وتقول : يا موسى إني أنا ربك، أو إني أنا الله رب العالمين!!


الصفحة التالية
Icon