اعلم أن منكري الحشر يقولون لا فائدة في التكاليف، فإنها مشاق في الحال، ولا فائدةَ لها في المآل؛ إذ لا مآل ولا مرجع بعد الهلاك والزوالِ، فلما بين الله تعالى أنهم إليه يرجعون في آخر السورة قبلها بين أن الأمر ليس على ما حسبوه، بل ( حسن التكليف )، لأنه يهذب الشكور ويعذب الكفور، فقال :﴿ أحسب الناس أن يتركوا ﴾ غير مكلفين من غير عمل يرجعون به إلى ربهم.
فصل في حكمة افتتاح هذه السُّوَرِ بحروف التَّهَجِّي
ولنذكرْ كلاماً كُلِّيّاً في افتتاح السور بالحروف.
اعلم أن الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة، أو من يكون مشغول البال بشغل يشغله يقدم على الكلام المقصود سبباً غيره ليلتفت المخاطب ( إليه ) بسببه، ويقبل بقلبه عليه، ثم يشرع في المقصود.
واعلم أن ذلك المتقدم على الكلام ( المقصود قد يكون كلاماً له معنى مفهوماً، كقول القائل :« زَيْدٌ، ويَا زَيْدُ » و « أَلاَ زَيْدُ ».
وقد يكون المقدم صوتاً ) غير مفهوم، كمن يُصَفِّرُ خلف إنسان ليلتفتَ وقد يكون الصوت بغير افم، كتصفيق الإنسان بيده، ليقبل السامع عليه.
ثم إن توقع الغفلة ( كلما كان أتم، والكلام المقصود كان أهم )، كان المقدم على الكلام المقصود أكثر ولهذا ينادى القريب « بالهمزة » فيقال :« أَزَيْدُ »، والبعيد ب « يَا »، فيقال :« يَا زَيْدُ »، والغافل ينبه أولاً، فيقال :« أَلاَ يَا زَيْدُ ».
إذا تقرر هذا فنقول : النبي - ﷺ - وإن كان يَقْظَانَ الجَنانِ لكنه إنسان يَشغله شأن عن شأن، فحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفاً هي كالمنبِّهات.
وتلك الحروف إذا لم يفم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه من تقديم الحروف المفهومة، لأن الحروف إذا كانت مفهومة المعنى، وذكرت لإقبال السامع على المتكلم لكي يسمع ما بعد ذلك فربما يظن السامع أنه كل المقصود و « لا » كلام بعد ذلك فيقطع الالتفات عنه أما إذا سمع صوتاً بلا معنى فإنه يقبل عليه ولا يقطع نظره عنه ما لم يسمع غيره، لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود.
فإذن تقديم الحروف التي لا يفهم معناها على الكلام المقصود فيه حكمة بالغة.
فإن قيلَ : فما الحكمة في اختصاص بعض السورة بهذه الحروف؟
فالجواب : قال ابن الخطيب : عقل البشر يعجز عن إدراك الأشياء الكُلِّيَّة على تفاصيلها، لكن نذكر ما يوفقنا الله له فنقول : كل سورة في أوائلها ( حروف التهجي فإن في أوائلها ) ذكر الكتاب أو التنزيل، أو القرآن كقوله تعالى :﴿ الم ذَلِكَ الكتاب ﴾ [ البقرة : ١ - ٢ ]،