الوجه الثالث : أن قوله :﴿ الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً ﴾ وإن كان خبراً في الظاهر لكن المراد منه النهي، والمعنى : كل من كان زانياً فلا ينبغي أن ينكح إلا زانية، ﴿ وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين ﴾ هكذا كان الحكم في ابتداء الإسلام.
وعلى هذا الوجه ذكروا قولين :
أحدهما : أن ذلك الحكم باق إلى الآن حتى يحرم على الزاني والزانية التزويج بالعفيفة والعفيف وبالعكس، وهذا مذهب أبي بكر وعمر وعليّ وابن مسعود.
ثم في هؤلاء من يسوّي بين الابتداء والدوام فيقول : كما لا يحل للمؤمن أن يتزوج بالزانية فكذلك لا يحل له إذا زنت تحته أن يقيم عليها.
ومنهم من يفصل لأن في جملة ما يمنع من التزويج ما لا يمنع من دوام النكاح كالإحرام والعدة.
والقول الثاني : أن هذا الحكم صار منسوخاً. واختلفوا في ناسخه : فقال الجبائي : إن ناسخه هو الإجماع وعن سعيد بن المسيب أنه منسوخ بعموم قوله تعالى :﴿ فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء ﴾ [ النساء : ٣ ]، ﴿ وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ ﴾ [ النور : ٣٢ ].
قال المحققون : هذان الوجهان ضعيفان، أما قول الجبائي فلأنه ثبت في أصول الفقه أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به، وأيضاً فالإجماع الحاصل عقيب الخلاف لا يكون حجة، والإجماع في هذه المسألة مسبوق بمخالفة أبي بكر وعمر وعلي، فكيف يصح؟
وأما قوله :﴿ فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء ﴾ [ النساء : ٣ ] فلا يصلح أن يكون ناسخاً، لأنه لا بد من أن يشترط فيه ألا يكون هناك مانع من النكاح من سبب أو نسب أو غيرهما.
ولقائل أن يقول : لا يدخل فيه تزويج الزانية من المؤمنين، كما لا يدخل فيه تزويجها من الأخ وابن الأخ، وأن للزنا تأثيراً في الفرقة ما ليس لغيره، ألا ترى أنه إذا قذفها يتبعها بالفرقة على بعض الوجوه؟ ولا يجب مثل ذلك في سائر ما يوجب الحد، ولأن الزنا يورث العار، ويؤثر في الفراش، ففارق غيره.
واحتج من ادعى النسخ بأن رجلاً سأل النبي - ﷺ - فقال :« يا رسول الله إن امرأتي لا تردّ يد لامس »، قال :« طَلِّقْهَا ». قال :« إني أحبها، وهي جميلة »، قال :« استمتع بها » وفي رواية :« فأمسكها إذن ».
وروي أن عمر بن الخطاب ضرب رجلاً وامرأة في زنا وحرص أن يجمع بينهما، فأبى الغلام. وبأن ابن عباس سُئِل عن رجل زنا بامرأة فهل له أن يتزوجها؟ فأجازه ابن عباس، وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه.
وعن النبي - ﷺ - أنه سُئِل عن ذلك فقال :« أَوَّلُهُ سِفَاحٌ وآخِرُهُ نِكاح، والحرامُ لا يُحَرِّمُ الحلال ».