قوله :﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق ﴾ أي انظروا إلى ديارهم وآثارهم كيف بَدَأ بخلقهم.
فإن قيل : أبرز اسم « الله » في الآية الأولى عند البدء، فقال :﴿ كيف يبدىء الله ﴾ وأضمره عند الإعادة، وهاهنا أضمره عند البداء، وأبرزه عند الإعادة فقال :﴿ ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة ﴾.
فالجواب : أنه في الآية الأولى : لم يسبق ذكر الله بفعل حتى يسند إليه البداء فقال :﴿ كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده ﴾، كقول : ضرب زيد عمراً ثم ضرب بكراً، ولا يحتاج إلى إظهار اسم « زيد » اكتفاء الأول.
وفي الثانية : كان ذكر البداء مسنداً إلى الله فاكتفى به، ولم يبرزه، وأما إظهاره عند الإنشاء ثانياً، فقال :﴿ ثُمَّ الله يُنشِىءُ ﴾ مع أنه كان يكفي أن يقول :« ثم ينشىء » النشأة الآخرة لحكمة بالغة وهي أن مع إقامة البرهان على إمكان الإعادة أظهر اسمه، حتى يفهم المسمى به صفات كماله، ونعوت جلاله، فيقطع بجواز الإعادة فقال :« ثم الله » مظهراً لينفع في ذهن الإنسان جلّ اسمه كمالل قدرته، وشمول علمه، ونفوذ إرادته، فيعترف بوقوع بدئه، وجواز إعادته، فإن قيل : فلم لم يقل :« ثُم اللَّهُ يعيده » بعين ما ذكرت من الحكمة فنقول : لوجهين.
أحدهما : أن الله كان مظهراً مبرزاً بقرب منه وهو في قوله :« يبدىء الله الخلق »، ولم يكن بينهما إلا لفظ الخلق، وأما هنا فلم يذكر غير البدء فأظهره.
وثانيهما : أن الدليل هنا تم على جواز الإعادة لأن الدليل منحصر في الآفاق وفي الأنفس، كما قال تعالى :﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ ﴾ [ فصلت : ٥٣ ] ففي الآية الأولى أشار إلى الديل الحاصل للإنسان من نفسه، وفي الثانية أشار إلى الدليل الحاصل من الآفاق، لقوله :﴿ سيروا في الأرض ﴾ وعندها تم الدليلان فأكده بإظهار نفسه، وأما الدليل الأول فأكده بالدليل الثاني فلم يقل :﴿ ثم الله يعيده ﴾ فإن قيل : قال في الأولى :﴿ أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق ﴾ بلفظ المستقبل وهاهنا قال :﴿ فانظروا كيف بدأ ﴾ بلفظ الماضي، فما الحكمة؟
فالجواب : أن الدليل الأول النفسي الموجب للعلم، وهو يوجب العلم ببدء الخلق ( وأما الدليل الثاني فمعناه إن كان ليس لكم علم بأن الله يبدأ الخلق ) فانظروا إلى الأشياء المخلوقة، فيحصل لكم العلم بأن الله بدأ خلقاً، وتحصل من هذا القدر بأنه « ينشىء » فإن قيل : قال في هذه الآية :﴿ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، وقال في الأولى :﴿ إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ ﴾ ( فما فائدته ).
فالجواب : فيه فائدتان :
أحدهما : أن الدليل الأول هو الدليل النفسي وهو وإن كان موجباً للعلم التام، ولكن عند انضمام الدليل الآفاقي إيه يحصل العلم التام لأنه بالنظر في نفسه علم حاجته إلى غيره ووجوده ( منه ) فتم علمه ( ب ) أن الله على كل شيء قدير، أن كل شيء من الله، فقال عند تمام الدليل : إن الله على كل شيء قدير، وقال عند الدليل الواحد إن ذلك على الله يسير وهو الإعادة.