قوله تعالى :﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ﴾ أي صدقه، وهو أول من صدق إبراهيم، وكان ابن أخيه وقال إبراهيم :﴿ إني مُهَاجر إلى ربي ﴾ إلى حيث أمرني ربي بالتوجه إليه من « كوثا » وهو من سواد الكوفة إلى « حران ثم إلى الشام ومعه » لوط « وامرأته » سارة « وهو أول من هاجر ». وقال مقاتل : هاجر إبراهيم ( ﷺ ) وهو ابن خَمْسٍ وسبعينَ سنةً. ثم قال :﴿ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾، عزيز يمنع أعدائي عن إيذائي بعونه، و « حكيم » لا يأمرني إلا بما يوافق الحكمة.
( فإن قيل ) : قوله ﴿ فآمن له لوط ﴾ أي بعد ما رأى منه العجز القاهر، ودرجة لوط كانت عالية فبقاؤه إلى هذه الوقت مما ينقص من الدرجة، ألا ترى إلى أبي بكر - رضي الله عنه - لما قبل دين محمد - ﷺ - كان قبوله قبل الكل من غير سماع تكلم الخصَى، ولا رُؤية انْشِقَاق القَمَر.
فالجواب : أن لوطاً لما رأى معجزته آمن برسالته، وأما بالوحدانية فآمن مِن حيث سمع مقالته، ولهذا قال :﴿ فآمن لوط ﴾، ولم يقل :« فآمن لوط ».
فإن قيل : ما وجه تعلق قوله :﴿ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي ﴾ بما تقدم؟
فنقول : لما بالغ إبراهيم في الإرشاد، ولم يهتدِ قومه وحصل اليأس الكلي، ورأى القوم الآية الكبرى ولم يؤمنوا وجبت المهاجرة، لأن الهادي إذا هدى قومه ولم ينتفعوا فبقاؤه فيهم مفسد، لأنه إذا دام على الإرشاد كان اشتغالاً بما لا ينتفع في علمه، فيصير كمن يقول للحجر صدق، وهو عبث والسكوت دليل الرضا فيقال : إنه صار منا، ورضي بأفعالنا، وإذا لم يبق للإقامة وجه وجبت المهاجرة.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله :﴿ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي ﴾ ولم يقل :« مهاجر إلى حيثُ أمرني ربي } مع أن المهاجرة إلى الرب توهم الجهة.
فالجواب : أن قوله ﴿ إلى ربي ﴾ ليس في الإخلاص، كقوله :» إلَى رَبِّي « لأن الملك إذا صدر منه أمر برواح الأجناد إلى موضع ثم إن واحداً منهم عاد إلى ذلك الموضع لغرض ( في ) نفسه يصيبه، فقد هاجر إلى حيث أمره الملك ولكن لا مخلصاً لوجهه، وقال :﴿ مهاجر إلى ربي ﴾ يعني : توجهي إلى الجهة المأمور بالهجرة إليها ليس طلباً للجهة، إنما طلب لله.
قوله :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة ﴾، قِيلَ : إن الله لم يبعث نبياً بعد » براهيم « إلا من نَسْلِهِ، ﴿ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا ﴾ وهو الثناء الحسن، وكل الأديان يقولون به، وقال السدي : هو الولد الصالح، وقيل : إنه رأى مكانه في الجنة ﴿ وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين ﴾ أي في زمرة الصالحين قال ابن عباس :» مثل آدم، ونوح « وفي هذه الآية لطيفة وهي أن الله تعالى بدّل جميع أحوال إبراهيم في الدنيا بأضدادها لما عذبه قومه بالنار كان وحيداً فريداً، فبدل الله وحدته بالكثرة حتى ملأ الدنيا من ذريته، ولما كانت أقاربه القريبة ضالين مضلين من جملتهم » آزر « بدل الله أقاربه بأقارب مهتدين هادين، وهم ذريته الذين جعل فيهم النبوة والكتاب، وكان أولاً لا جاه له، ولا مال، وهم غاية اللذة في الدنيا آتاه الله أجره في المال والجاه وكثر ماله حتى كان له من المواشي ما علم الله عدَدَهُ حتى قيل : إنه كان له اثنا عشر ألف كلبٍ حارس بأطواق ذهب وأما الجاه فصار ( بحيث تقرن ) الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة، وصار معروفاً وشيخ المرسلين بعد أن كان خاملاً حتى قال قائلهم :