وقوله ﴿ إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ اعلم أن في هذا الاستثناء خلافاً، هل يعود لما تقدَّمه من الجمل أم إلى الجملة الأخيرة فقط؟
وتكلم عليها من النحاة ابن مالك والمَهَابَاذِيُّ، فاختار ابن مالكٍ عوده إلى الجمل المتقدمة والمَهَابَاذِي إلى الأخيرة.
وقال الزمخشري : رد شَهَادَةِ القاذفِ معَلَّقٌ عند أبي حنيفة - رحمه الله - باستيفاء الحدِّ، فإذا شهد قبل الحدِّ أو قبل تمام استيفائِهِ قُبِلَتْ شهادته، فإذا استوفي لم تُقْبَلْ شهادته أبداً وإن تابَ وكان من الأبرار الأتقياء.
وعند الشافعي - رحمه الله - يتعلَّقُ ردُّ شهادِتِه بنفس القَذْفِ، فإذا تاب عن القذف بأن رجع عنه عاد مقبول الشهادة، وكلاهما مُتَمَسِّكٌ بالآية، فأبو حنيفة - رحمه الله - جعل جزاء الشرط الذي هو الرميُ : الجلدَ وردَّ الشهادة عُقَيْبَ الجلد على التأبيد، وكانوا مَرْدُودِي الشهادة عنده في أبدهم، وهو مدَّة حياتهم، وجعل قوله :﴿ وأولئك هُمُ الفاسقون ﴾ كلاماً مستأنفاً غير داخلٍ في حيز جزاء الشرط، كأنه حكاية حال الرامين عند الله بعد انقضاء الجملة الشرطية، و ﴿ إِلاَّ الذين تَابُواْ ﴾ استثناء من « الفَاسِقِينَ »، ويدلُّ عليه قوله :﴿ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. والشافعيُّ - رحمه الله - جعل جزاء الشرط الجملتين أيضاً غير أنه صَرَفَ الأبد إلى مدة كونه قاذفاً، وهي تنتهي بالتوبة ( والرجوع ) عن القذف، وجعل الاستثناء متعلِّقاً بالجملة الثانية. انتهى.
واعلم أن الإعراب متوقفٌ على ذكر الحكم، ومحلُّ المستثنى فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منصوب على أصل الاستثناء.
والثاني : أنه مجرور بدلاً من الضمير في « لَهُمْ ».
وقد أوضح الزمخشري ذلك بقوله : وحق المستثنى عنده - أي : الشافعي - أن يكون مجروراً بَدَلاً من « هُمْ » في « لَهُمْ »، وحقه عند أبي حنيفة أن يكون منصوباً، لأنه عن موجب والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاثة بمجموعهن جزاء الشرط، كأنه قيل : وَمَنْ قَذَفَ المُحْصَنَاتِ فَاجْلِدُوهُمْ، وَرُدّوا شَهَادَتَهُمْ، وفسِّقوهم، أي : فاجمعوا لهم الجلد والردَّ والتفسيق، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله غفور رحيم، يغفر لهم فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسَّقين.
قال أبو حيان : وليس ظاهر الآية يقتضي عود الاستثناء إلى الجمل الثلاث، بل الظاهر هو ما يعضده كلام العرب، وهو الرجوع إلى الجملة التي تليها.
والوجه الثالث : أنه مرفوع بالابتداء، وخبره الجملة من قوله :﴿ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
واعترض بخلوّها من رابطٍ.
وأُجيبَ بأنه محذوف، أي : غفور لهم.
واختلفوا أيضاً في هذا الاستثناء، هل هو مُتَّصِلٌ أم مُنْقَطِعٌ؟ والثاني ضَعيفٌ جداً.
فصل
الإقرار بالزنا يثبت بشهادة رجلين بخلاف فعل الزنا، لأن الفعل يعسر الاطلاع عليه وقيل : لا يثبت إلا بأربعة كفعل الزنا.