فكذلك هاهنا لما أعلم نفسه بقوله :« فَإيَّايَ » وهو لنفسه مستق العبادة، فقال :« فَاعْبُدُونِ ». قال الزمخشري :« هذا جواب شرط مقدر، وجعل تقديم المفعول عوضاً من حذفه مع إفادته للاختصاص ». وقد تقدم مُنَازَعُه أبي حيان له في نظيره.
قوله تعالى :﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ قرأه بالغيبة أبو بكر، وكذا في الروم في قوله :﴿ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ وافقه أبو عمرو في الروم فقط والباقون بالخطاب فيها. وقرىء يَرْجعثون مبيناً للفاعل.
فصل
لما أمر الله تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الأخوان فخوفهم بالموت ليهون عليهم الهجرة أي كل أحد ميت أينما كان فلا تقيموا بدار الشرك خوفاً من الموت فإن كل نفس ذائقة الموت فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله فيجازيكم عليه، فإن إلى الله مرجعكم فيجزيكم بأعمالكم، وفيه وجه دقيق آخر وهو أن قوله :﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ أي إذا كانت ( معلقة ) بغيرها فهو للموت ثم إلى الله ترجع فلا تموت كما قال تعالى :﴿ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت ﴾ [ الدخان : ٥٦ ] وإذا كان كذلك فمن يريد أن لا يذوق الموت لا يبقى مع نفسه فإن النفس ذائقته بل يتعلق بغيره، وذلك الغير إن كان غير الله فهو ذائق الموت لقوله :﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت ﴾ و ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ [ القصص : ٨٨ ] ( يريح من الموت ) فقال تعالى :« فإياي فاعبدون » أي تعلقوا بي، ولا تتبعوا النفس، فإنها ذائقة الموت ﴿ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ أي إذا تعلقتم بي فموتكم رجوعٌ إلي وليس بموت لقوله :﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [ آل عمران : ١٦٩ ]، وقال عليه ( الصلاة و ) السلام :« المؤمِنونَ لا يَمُوتونَ بل يُنْقَلُون من دار إلى دار ».
قوله ( تعالى ) :﴿ والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ الوجهان المشهوران الابتداء، والاشتغال، وقوله :« لَنُبَوِّئَنَّهُمْ »، قرأ الأخوانِ بتاء مثلثةٍ ساكنةٍ بعد النون، وياء مفتوحة بعد الواو من الثَّوَاءِ وهو الإقامة، يقال : ثَوَى الرجلُ إذا أقامَ، مفتوحة بعد الواو من المَبَاءَةِ وهي الإنزال أي لنبوئنهم من الجنة غرَفاً.
قوله :« غُرَافاً » على القراءة الأولى إما مفعول به على تضمين « أَثْوَى » أَنْزَلَ فيتعدى لاثنين؛ لأنَّ « » ثوى « قاصرٌ، وأكسبتْهُ الهمزةُ التعدي لواحدٍ، وإما ( على ) تشبيه الظرف المختص بالمبهم كقوله :﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم ﴾ [ الأعراف : ١٦ ] وإما على إسقاط الخافض اتساعاً أي في غُرَفٍ. وأما في القراءة الثانية فمفعول ثانٍ؛ لأن » بوأ « يتعدى لاثنين قال تعالى :﴿ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ﴾ [ آل عمران : ١٢١ ]، ويتعدى باللام، قال تعالى :﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ ﴾ [ الحج : ٢٦ ].