واعلم أن أصحاب الهيئة قالوا : الشمس مركوزة في الفلك، والفلك يديرها بدَوَران. وأنكره المفسرون الظَّاهِريُّونَ. واعلم أنه لا بعد في ذلك ( إن ) لم يقولوا بالطبيعة؛ فإن الله تعالى فاعل مختار إن أَراد أن يحركهما ( في الفلك وبالفلك ساكن يجوز، وإن أراد أن يحركهما ) بحركة الفلك وهما ساكنان يجوز ولم يرد فيه نص قاطعٌ أو ظاهرٌ. واعلم أنه تعالى ذكر إيجاد الذوات بقوله :﴿ خلق السموات والأرض ﴾ وذكر إيجاد الصفات بقوله :﴿ وَسَخَّرَ الشمس والقمر ﴾ ثم قال :﴿ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ لما ذكر الخلق ذكر الرزق؛ لأن بقاء الخلق ببقائه، وبقاء الإنسان بالرزق، فقال المعبود إما أن يعبد لاستحقاق العبادة والأصنام ليست كذلك والله مستحقها وإما لكونه عظيم الشأن والله الذي خلق السماوات عظيم الشأن فله العبادة، وإما لكونه يأمر الإحسان، والله يَرْزُقُ الخَلْقَ فله الفضل والإحسان، والامْتِنَان فله العبادة ﴿ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٍ ﴾ يعلم مقادير الحاجات والأرزاق، ولما قال :« يبسط الرزق » ذكر اعترافهم بذلك فقال :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله ﴾ يعني سبب الرزق، وموجد السبب موجد المسبب فالرزق من الله.
قوله :﴿ قُلِ الحمد لِلَّهِ ﴾ على ما أقروا به، ولزوم الحجة عليهم ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ ( ينكرون التوحيد مع إقرارهم بأنه خالق لهذه الأشياء فقل الحمد لله على ظهور تناقضهم وأكثرهم لا يعقلون ) هذا التناقض، وقيل : هذا كلام معترض في أثناء كلام، فإنه قال :﴿ بَلْ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ فذكر في أثناء هذا الكلام الحمد لذكر النعمة كقوله :

٤٠٣١ - إنَّ الثَّمَانِينَ - وَبُلِّغْتَهَا - قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إلَى تَرْجُمَان
قوله ( تعالى ) :﴿ وَمَا هذه الحياة الدنيآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ ﴾ « اللهو » هو : الاستمتاع بلذّات الدنيا، و « اللعب » ( الْعَبَثُ )، سميت بها، لأنها فانية، وقيل :« اللهو » الإعراض عن الحق، و « اللعب » في الإقبال على الباطل.
فإن قيل : قال في الأنعام :﴿ وَمَا الحياة الدنيآ ﴾ ( ولم يقل :« وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ » ) وقال ههنا :﴿ وما هذه الحياة ﴾ فما فائدته؟
فالجواب : أن المذكور ( من قبل ههنا أمر الدنيا، حيث قال :﴿ فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا ﴾ فقال : هذه، والمذكور قبلها ) هناك الآخرة حيث قال :﴿ ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ ﴾ [ الأنعام : ٣١ ] فلم تكن الدنيا في ذلك الوقت في خاطرهم فقال :﴿ وما الحياة الدنيا ﴾.
فإن قيل : ما الحكمة في تقديمه هناك « اللعب » على « اللهو » وههنا أخر « اللعب » عن « اللهو ».
فالجواب : لما كان المذكور من قبل هناك الآخرة، وإظهارها للحسرة ففي ذلك الوقت ببعد الاستغراق في الدنيا، بل نفس الاشتغال بها فأخذ الأبعد، وههنا لما كان المذكور من قبل الدنيا وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها والاستغراق فيها، اللهم إلا لمانعٍ يمنع من الاستغراق فيشتغل بها من غير استغراق ( بها )، أو لعاصم يعصمه فلا يستغل بها أصلاً، فكان :( ههنا ) الاستغراق أقرب من عدمه فقدم اللهو.


الصفحة التالية
Icon