فإن قيل : ما الحكمة في قوله هناك :﴿ وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ ﴾ [ يوسف : ١٠٩ ] [ النحل : ٣٠ ] وقال هَهنا ﴿ وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان ﴾ ؟.
فالجواب : لما كان الحال هناك حال إظهار الحسرة ما كان المكلف يحتاج إلى وازعٍ قويٍّ فقال : الآخرةُ خَيْر ولما كان الحال هنا حال الاستغال بالدنيا احتاج إلى وازع قوي فقال : لا حياة إلا حياة الآخرة.
قوله :﴿ وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان ﴾ قدر أبو البقاء وغيره قبل المبتدأ مضافاً أي وإنَّ حَيَاةَ الدارِ الآخرة وإنما قدر ذلك ليتطابق المبتدأ والخبر والمبالغة أحسن و « واو » الحيوان ( عن ياءٍ ) عند سيبويه وأتباعه، وإنما أبدلت واواً شذوذاً، وكذلك في « حَيَاةٍ » علماً وقال أبو البقاء لئلا يلتبس بالتثنية يعني لو قيل : حَيَيَانِ - قال : ولم تقلب ألفاً لتَحَرُّكِهَا وانفتاح ما قبلها؛ لئلا يحذف إحدى الألفين وغير سيبويه حمل ذلك على ظاهره، فالحياة عند لامُها « واو ». ولا دليل لسيبويه في « حَيِيَ » ؛ لأن الواو متى انكسر ما قبلها قلبت ياءً نحوُ :« عُدِيَ، ودُعِي، وَرَضِيَ ». ومعنى الآية :﴿ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ﴾ أي الحياة الدائمة الباقية، والحيوان بمعنى الحياة أي فيها الحياة الدائمة ﴿ لو كانوا يعلمون ﴾ أي لو كانوا يعلمون أنها الحيوان لما آثروا عليها الدنيا.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله : في الأنعام ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [ الأنعام : ٣٢ ] وقال هنا ﴿ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ ؟
فالجواب : أن المُثْبَتَ هناك كون الآخرة، ولأنه ظاهر لا يتوقف إلا على العقل والمثبت هنا أن لا حياة إلا حياة الآخرة. وهذا دقيق لا يُعْلَمُ إلا بِعِلْمِ نَافِعٍ.