قوله :﴿ بَلِ اتبع الذين ظلموا أَهْوَآءَهُمْ ﴾ أي لا يجوز أن يشرك مالك ممولكه ولكن الذين ظلموا أي أشركوا اتبعوا أهواءهم في الشرك ﴿ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ ﴾ أي من غير دليل جهلاً بما يجب عليهم، ثم بين أن ذلك بإرادة الله بقوله :﴿ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله ﴾ أي هَؤلاء أَضَلَّهم الله فلا هاديَ لهم فلا يحزنْك قَوْلُهُمْ ثم قال :﴿ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ مانعيهم يمنعونهم من عذاب الله - تعالى -.
قوله تعالى :﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ﴾ أي أخلص دينك لله قال سعيد بن جبير : وقامة الوجه إقامة الدين. وقال غيره : سَدِّدُ عملَكَ. والوجه ما يتوجه إليه، وقيل : أقبل بكُلِّكَ على الدين. عبر عن الذات بالوجه كقوله تعالى :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ [ القصص : ٨٨ ] أي ذاته بصفاته.
قوله :« حَنِيفاً » حال من فاعل « أقم أو من مفعوله، أو من » الدِّين « ومعنى حنيفاً مائلاً إليه مستقيماً عليه، ومِلْ عن كل شيء لا يكون في قلبك شيء آخر، وهذا قريب من معنى قوله :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين ﴾.
قوله :» فِطْرَةَ اللَّهِ « فيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة كقوله :﴿ صِبْغَةَ الله ﴾ [ البقرة : ١٣٨ ] و ﴿ صُنْعَ الله ﴾ [ النمل : ٨٨ ].
والثاني : أنه منصوب بإضمار فعل. قال الزمخشري : وإنما أضمره على خطاب الجماعة لقوله :» مُنِيبِينَ إِلَيْهِ « وهو حال من الضمير في » الْزَمُوا «.
وقوله :﴿ واتَّقُوهُ وأَقِيمُوا... وَلاَ تَكُونُوا ﴾ معطوف على هذا المضمر، ثم قال :» أو عليكم فطرةَ الله « ورد أبو حيان بأن كلمة الإغراء لا تضمر، إذ هي عِوَضٌ عن الفعل فلو حذفها لزم حذف العِوَضِ والمُعَوَّضِ عنه وهو إجحاف. قال شهاب الدين : هذا رأي البصريين وأما الكسائي وتباعه فيجيزون ذلك.
فصل
ومعنى فطرة الله : دين الله وهو التوحيد فإن الله فطر الناس عليه حيث أخرجهم من ظهر آدم وسألهم :﴿ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ] وقال عليه السلام » مَا مِنْ مَوْلُودِ إِلاَّ وَهُوَ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ وَإِنَّمَا أَبَواهُ يُهَوِّدانِهِ ويُنَصِّرانه ويمجّسانه «، فقوله :» على الفطرة «، يعني على العهد الذي أخذه عليهم بقوله :﴿ ألست بربكم قالوا بلى ﴾ وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار وهي الفطرة التي وقع الخلق عليها وإن عبد غيره قال الله تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله ﴾ [ الزخرف : ٨٧ ] ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ] ولكن لا عبرة بالإيمان الفِطْريِّ في أحكام الدنيا، وإنما يعتبر الإيمان الشرعُ المأمور به، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين. وقيل : الآية مخصوصة بالمؤمنين وهم الذين فطرهم الله على الإسلام، روي عن عبد الله بن المبارك قال معنى الحديث : إن كل مولود يولد على فِطرته أي على خلقته التي جُبِلَ عليها في علم الله تعالى من السعادة والشقاوة فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليها وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها فمن أمارات الشقاء أن يُولَد بين يَهْودِيَّيْنِ أو نَصْرَانِيِّيْنِ فيحملانه لشقائه على اعتقاده دينهما، وقيل : معنى الحديث أن كل مولود في مَبْدأ الخلقة على الفطرة أي على الجبلّة السليمة والطبع المنهيّ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها؛ لأن هذا الدين موجود حُسْنُهُ في العقول، وإنما يَعْدِلُ عنه من يَعْدِلُ إلى غيره لآفة من النُّشوءِ والتقليد فمن يَسْلَمْ من تلك الآفات لم يعتقد غيره، ذكر هذه المعاني أبو سليمان الخَطَّابيُّ في كتابه.