فصل
قال ابن عباس : سخر الله الجنَّ لسليمانَ وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به، ومن يزُغ يعدل منهم من الجن عن أمرنا الذي أمرنا به من طاعة سليان نُذِقْه مِنْ عَذَابِ السَّعير في الآخرة، وقيل : في الدنيا وذلك أن الله وكل بهم ملكاً بيده سَوْطٌ من نارٍ فمن زاغ منهم عن أمر سليمان ضربه ضربةً أحْرَقَتْهُ.
قوله :﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ ﴾ مفسر لقوله :« مَنْ يَعَمَلُ » و « مِنْ مَحَارِيبَ » بيان ل « مَا يَشَاءُ » والمراد بالمحاريب : المساجد والأبنية المرتفعة، وكان مما عملوا له بيت المقدس، ابتدأه داود ورَفَعَهُ قامةَ رجُل فأوحى إليه أني لم أقضِ ذلك على يدك ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمُه سليمانُ أقضي تمامه على يده، فلما توفاه الله استخلف سليمان فأحب إتمام بناء بيت المقدس فمجمع الجن والشياطين وقسَّم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحه له فأرسل الجن والشياطين في تحصل الرُّخَام والمِيهَا الأبيْضَ من معادِنه وأمر ببناء المدينة بالرُّخام والصّفاح وجعلها اثْنَيْ عَشَرَ رَبَضاً وأنزل على كل ربض منها سبطاً من الأسباط وكانوا اثنى عشر سبطاً، فلما فرغ من بناء المدينة، ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فِرَقاً فِرَقاً يستخرجون الذهبَ والفضةَ والياقوتَ من معادنها والدرِّ الصِّافِيَ من البحر وفرقاً يقلعون الجواهرَ من الحجارة من أماكنها وفرقاً يأتونه بالمِسْكِ والعَنْبَر وسائر الطّيب من أماكنها فأتى من ذلك بشيء لا يُحصيه إلا الله عزّ وجلّ. ثم أحضر الصُّنَّاع وأمرهم بنحتِ تلك الحجارة المرتفة وتصييرها ألواحاً وإصاحاً تلك الجواهر وثَقَّبَ الياقوتَ واللآلئَ فبنى المسجد بالرُّخَام الأبيض والأصفر والأخضر وعمَّده بأساطين المِيهَا الصَّافي وسقَّفه بألواح الجَوَاهر الثمينة وفَصَّصَ سُقُوفَه وحِيطَانِهُ باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفَيْرُوزَج فلم يكن يومئذ في الأرض بين أبهرُ ولا أنورُ من ذلك المسجد كان يضيء في الظلمة كالقَمر ليلةَ البدر، فلما فرغ منه جمع أحْبَار بين إسرائيل وأعلمهم أنه بناه لله وأن كل شيء فيه خالص لله، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيداً، روى عبدُ الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله - ﷺ - قال :« لمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ مِنْ بِنَاء بَيْتِ المَقْدِس سَأَلَ رَبَّهُ ثَلاثَا فَأَعْطَاه اثْنَتَين وَأنَا أرْجُو أنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ الثُّالثَةَ سَألَ حُكْماً يُصَادِفُ حُكْمَهُ فأعطاه إياه، وَسَأَلَهُ مُلْكاً لاَ يَنْبغَي لأَحدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأَعْطَاهُ، وَسَأَلَهُ أنْ لاَ يَأتِيَ هذَا البَيْتَ أحَدٌ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إلاَّ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبه كَيَوْم وَلَدَتْهُ أُمُّهُ وَأَنَا أَرْجُوا أنْ يَكُون قَد أَعْطَاهُ ذَلِكَ »