قوله :﴿ مِنْ عَزْمِ الأمور ﴾ يجوز أن يكون عزم بمعنى مفعول أي من مَغْزُماتِ الأمور أو بمعنى عازم كقوله :﴿ فَإِذَا عَزَمَ الأمر ﴾ [ محمد : ٢١ ] وهو مجاز بليغ، وزعم المبرد أن العين تبدل حاء فيقال « حَزْم، وعَزْم » والصحيح أنهما مادات مختلفتان اتفقا في المعنى، والمراد من الآية أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى ( فيهما ) من الأمور الواجهة التي أمر الله تعالى بها ويعزم عليها لوجوبها.
قوله :« وَلاَ تُصَعِّرْ » قرأ ابن كثير وابنُ عامر وعاصمٌ « تُصَاعِرْ » بألف وتخفيف العين، والباقون بالألف وتشديد العين، والرسم يحتملهما، فإنه رسم بغير ألف، وهما لغتان لغةُ الحجاز التخفيف وتميم التثقيل فمن التثقيل قوله :

٤٠٥٠ - وَكُنَّا إِذَا الجَبَارُ صَعَّرَ خَدَّهُ أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَيُقَوَّمُ
ويقال أيضاً : تَصَعَّر، قال :
٤٠٥١ -........................ أقَمْنَا لَهُ مِنْ خَدِّه المُتَصَعِّر
وهو من الميل، وذلك أن المتكبر يميل بِخَدِّهِ تكبراً كقوله ﴿ ثَانِيَ عِطْفِهِ ﴾ [ الحج : ٩ ]. قال أبو عبيدة : أصله من الصَّعَرِ داء يأخذ الإبل في أعناقها فتميل وتَلْتَوِي؛ يقال : صَعَّرَ وجهه وصاَعَرَ إذا مال وأعرض تكبُّراً، ورجل أصْعَرُ أي مائل العنق، وتفسير اليَزِيدِيّ له بأنه التَّشَدُّق في الكلام لا يوافق الآية هنا، قال ابن عباس : يقول لا تتكبر فتحتقر الناس وتعرض عنهم وجهك إذا كلموك، وقال مجاهد : هو الرجل يكون بينك وبين إحْنَةٌ فتلقاه فيعرض عنك بوجهه، وقال عكرمة : هو الذي إذا سلم عليه لوى عُنُقَه تكبراً، وقال الربيع بن أنس وقتادة ولا تحتقر الفقراء ليكون الغنيّ والفقير عندك سواء، واعلم أنه لما أمره بأن يكون كاملاً في نفسه مكملاً لغيره فكان يخشى بعدها من أمرين :
أاحدهما : التكبر على الغير لكونه مكملاً له.
والثاني : التبختر في المشي لكونه كاملاً في نفسه فقال :﴿ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ ﴾ تكبراً ﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً ﴾ أي خُيَلاَءَ ﴿ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ في نفسه « فَخُورٍ » على الناس بنفسه.
قوله :« واقْصِدْ » ( هذا قاصر ) بمعنى اقْتَصِدْ واسلُك الطريقة الوسطى بين ذلك قَوَاماً أي ليكن مشيك قصداً لا تخيلاً ولا إسراعاً. وقال عطاء : امشِ بالوَقَار والسكينة لقوله :﴿ يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ].
( وقُرِىءَ ) « وأَقْصِدْ » بهمزة قطعٍ من أَقْصَدَ إذا سَدَّدَ سهمه للرَّمْيَةِ.
قوله :﴿ واغضض مِن صَوْتِكَ ﴾ من تَبْعيضيَّه، وعند الأخفش يجوز أن تكون زائدة، ويؤيده قوله ﴿ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ ﴾ [ الحجرات : ٣ ]. وقيل :« من صوتك » صفة لموصوف محذوف أي شيئاً من صوتك، وكان الجاهلية يتمدحون برفع الصوت، قال :[ من المتقارب ] :
٤٠٥٢ - جَهِيزَ الكَلاَمِ جَهِيرَ العُطَاسِ جَهِيرَ الرُّوَاءِ جَهِيرَ النّعَمْ
والمعنى أَنْقِصْ من صوتك، وقال مقاتل : اخفض من صوتك.
فإن قيل : لِمَ ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي؟.
فالجواب : أن رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصِّمَاخ بقوته، وربما يخرقُ الغِشَاء الذي داخل الأذن، وأما سرعة المشيء فلا تؤذي وإن أذت فلا يؤذي غير في طريقه والصوت يبلغ من على اليمين وعلى اليسار ولأن اللمس يؤذي آلة اللمس والصوت يؤذي آلة السمع، وآل السمع على باب القلب فإن الكلامَ ينتقلُ من السمع إلى القلب ولا كذلك اللمس وأيضاً فلأن قبيحَ القول أقبح من قبيح الفعل وحسنه أحسن لأن اللسان تَرْجُمانُ القلب.


الصفحة التالية
Icon