وقال كعب الأحبار حين حضر الوفاة عمر : والله لو دعا عمر ربه أن يؤخر أجله لأخر فقيل له : إن الله عزّ وجلّ يقول :﴿ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [ الأعراف : ٣٤ ] فقال : هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد و ( أن ) يَنْقُصَ، وقرأ هذه الآية.

فصل


« وما تحمل من أنثى ولا تضع » إشارة إلى كمال قدرته فإن ما في الأرحام قبل التخليق بل بعده ما دام في البطن لا يعلم حاله أحد كيف والأم الحامل لا تعلم منه شيئاً فلما ذرك بقوله :﴿ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ كمال قدرته بين بقوله :﴿ ما تَحْمِلُ من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ﴾ كمال علمه. ثم بين نفوذ إرادته بقوله :﴿ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ﴾ فبين أنه هو القادرُ العليم المريد والأصنام لا قدرة لها ( ولا علم ) ولا إرادة فكيف يستحق شيء منها العبادة. ثم قال :﴿ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ ﴾ أي الخلق من التراب. ويحتمل أن يكون المراد إن التعمير والنقصان على الله يسير. ويحتمل أن يكون المراد : إن العمل بما تحمله الأنثى يسير والكل على الله يسير. والأول أشبه لأن استعمال اليسير في الفعل أليق.
قوله :﴿ وَمَا يَسْتَوِي البحران ﴾ يعني العذب والملح ثم ذكرهما فقال :﴿ هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ ﴾ طيب « سَائغٌ شَرَابُهُ » جائز في الحلق هنيء « وَهَذا مِلْحٌ أجَاجٌ » شديد الملوحة. وقال الضحالك : هو المُرُّ.
قوله :﴿ سَآئِغٌ شَرَابُهُ ﴾ يجوز أن يكون متبدأ وخبراً، والجملة خبر ثانٍ وأن يكون « سائغٌ » خبراً و « شرابه » فاعلاً به لأنه اعتمد وقرأ عيسى - ويوى عن أبي عمرو وعاصم - سَيِّغٌ مثل سيِّد وميِّت وعن عيسى بتخفيف يائه كما يخفف هَيِّن ومَيِّت.
وقرأ طلحة وأبو نُهَيْك ملحٌ بفتح الميم وكسر اللام، فقيل : هو مقصور من مَالِحٍ ومالٍح لغَيَّة شاذة. قويل : مَلِح بالفَتْح والكسر لُغَةٌ في مِلْحٍ، بالكسر والسكون.

فصل


قال أكثر المفسرين : إن المراد من الآية ضرب المثل في حق الكفر والإيمان أو الكافر والمؤمن فالإيمان لا يُشَبَّه بالكفر كما لا يشبه البحر العَذْبُ الفراتُ بالبحر المَلِح الأجاج ثم على هذا فقوله :﴿ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً ﴾ فالبيان أن حال الكافر والمؤمن أو الكفر والإيمان دون حال البحرين لأن الأجاجَ يشارك الفُرَاتَ في خير ونفع إذ اللحمُ الطريُّ يوجد فيهما والحِلْية تؤخذ منها والفُلْكُ تجري فيهما ولا نفع في الكفر والكافر. وهذا على نَسَقِ قوله تعالى :﴿ أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ] وقوله :﴿ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء ﴾ [ البقرة : ٧٤ ] قال ابن الخطيب : والأظهر أن المراد من ذكر دليل آخر على قدرة الله تعالى وذلك من حيث إن البحرين يَسْتَوِيَانِ في الصورة ويختلفان في الماء، فإن أحدهما فُراتٌ والآخر مِلْح أُجَاج ولولا ذلك بإيجاب مُوجِب لما اختلفت المستويان ثم إنهما بعد اختلافهما يوجد منهما أمور متشابهة فإن اللحم الطريَّ يوجد فيهما والحِلْية تؤخذ منهما ومن يوجد من المتشابهين اختلافاً ومن المختلفين اشتباهاً لا يكون إلا قادراً مختاراً فقوله :﴿ َمَا يَسْتَوِي البحران ﴾ إشارة إلى أن عدم استوئهما دليل على كمال قدرته ونفوذ إرادته.


الصفحة التالية
Icon