وعلى هذا ذكر « مختلفٌ ألوانها » في البيض والحمر وأخر « السود الغرابيب » لأن الأسود لما ذكره مع المؤكد وهو الغِرْبيب يكون بالغاً غايةَ السواد فلا يكون فيه اختلافٌ.
قوله :﴿ وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام ﴾ استدلال آخر على قدرة الله إرادته فكان تعالى قسم الدلائل دلائل الخلق في هذا العالم وهو عالم المركبات قسمين حيوان وغير حيوان وهو إما نبات وإما معدِن والنبات أشر فأشار إليه بقوله :﴿ فَأخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ ﴾ ثم ذكر المعدن بقوله :﴿ وَمِنَ الجبال ﴾ ثم ذكرالحيوان وبدأ بالأشرف منها وهو الإنسان فقال :« ومن الناس » ثم ذكر الدواب، لأن منافعها في حياتها والأنعام منفعتها في الأكل منها أو لأن الدابة في العرف تُطْلَقُ على الفَرَس وهو بعد الإنسان أشرف من غيره. وقوله :« مختلف ألوانه » القول فيه كما تقدم أنها في أنفسها دلائل كذلك باختلافها دلائل. وقوله :« مختلف ألوانه » مذكراً؛ لكون الإنسان من جملة المذكرو فكان التذكير أولى.
قوله :﴿ كَذَلِكَ ﴾ فيه وجهان :
أظهرهما : أنه بما قبله أي مُخْتَلِفٌ اخْتِلاَفاً مِثْلَ الاختلاف في الثَّمرات والجُدَد والوقف على « كَذَلِكَ ».
والثاني : أنه متعلق بما بعده والمعنى مثل ذلك المطر والاعتبار بمَخْلُوقات الله واختلاف ألوانها يخشى اللَّهَ العلماءُ. وإلى هذا نحا ابنُ عَطِيَّةَ. وهو فاسد من حيث إن ما بعد « إنَّمَا » مانع من العمل فيها قبلها وقد نَصَّ أبو عمرو الدَّانِيُّ على أن الوقف على « كذلك » تام. ولم يحك فيه خِلاَفاً.
قوله :﴿ إِنَّمَا يَخْشَى الله ﴾ العامة على نصب الجلالهِ ورفع « العلماء » وهي واضحة. وقرأ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزَ وأَبُو حَنِيفَةَ - فيما نقله الزمخشريّ - وأبو حيوة - فيما نقله الهذلي في كامله - بالعكس. وتُؤُوِّلَتْ على معنى التعظيم أي إنما يعظم اللَّهُ من عباده العلماء وهذا القراءة شبيهة بقراءة :« وإذا ابْتَلَى إبْرَاهِيمُ رَبَّهُ » برفع إبْرَاهِيمَ ونصب « رَبَّهُ ».
فصل
قال ابن عباس : إنما يخافُني مِنْ خَلْقي من عَلِمَ جَبَرُوتِي وعِزَّتِي وسُلْطَاني. واعلم أنَّ الخشيبة بقدرمعرفة المخشي والعالم يعرف الله فيخافه ويرجوه. وهذا دليل على أنَّ العالمَ أعلى درجةً من العابد؛ لقوله تعالى :﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ ﴾ [ الحجرات : ١٣ ] بين أن الكرامة بقدر التقوى والتقوى بقدر العلم لا بقدر العلم قال - عليه ( الصلاة و ) السلام- :« وَاللَّهِ إنِّي لأَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً » وقال - عليه ( الصلاة و ) السلام- :« لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً » وقال مسروق : كفى بخشية عِلماً وكفى بالاغترار بالله جهلاً. ثم قال :﴿ إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ أي عزيز في ملكه غفور لذنوب عباده فذكر ما يوجب الخوف والرجاء فكونه عزيزاً يوجب الخوف ورفع الجلالة تقدَّم معناه.