والثاني : أن ذلك بيان لكون السدِّ قريباً منهم بحيث يصير ذلك كالغِشَاوة على أبصارهم، فإن من جعل من خلف وقدّامِهِ سدين مُلْتَزِقَيْن به بحيث يبقى بينهما ملتزقاً بهما يبثى عينه على سطح السد فلا يُبْصِرُ شيئاً، لأن شرط المرئيِّ أن يكون قريباً من العَيْن جِداً.
فَإنْ قيلَ : ذكر اسد من بين الأيدي ومن خَلْفٍ، ولم يذكر من اليَمِين والشِّمالِ فما الحكمة فيه؟.
فالجواب : إن قلنا : إنه إشارة إلى الهداية الفطرية والنظرية فظاهر. وأما على غير ذلك فيقال : إنه حصل العموم بما ذكر والمنع من انتهاج المناهج المستقيمة، لأنهم إذا قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا مُتَوَجِّهِينَ إلى شيء، ومُؤَلِّين عن شيء فصار ما إليه توجُّهُهُمْ ما بين أيديهم فجعل الله السد هناك فمنعه من السوك فكيمفما توجه الكافر يجعل الله بين أيديه سداً وأيضاً ( فإنَّا ) لما بينا أن جعل السد سبباً لاستتار بصره فكان السد ملتزقاً به وهو ملتزق بالسدين، فلا قدره له على الحركة يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، فلا حاجة إلى السد عن اليمين وعن الشِّمال.
وقوله :﴿ فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ أي لا يبصرون شئياً، أو لا يبصرون سبيلَ الحق؛ لأن الكافر مَصْدُورٌ عَنْ سبيل الهدى.
قوله :﴿ وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ ﴾ تقدم الكلام عليه أول البقرة، بين أن الإنذار لا نيفعهم مع ما فعل الله بهم ن الغُلِّ والسدِّ والإغشاء والإعماء بقوله :﴿ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ ﴾ أي الإنذارُ وعَدَمُهُ سيَّان بالنسبة إلى إيمانهم.
﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِيَ الرحمن بالغيب ﴾ قال من قبل :﴿ لِتُنذِرَ قَوْماً ﴾ [ يس : ٦ ] وذلك يقتضي الإنذار العام وقال هنا :« إنَّما تنذر » وهو يقتضي التخصيص، فكيف الجمع بينهما؟! وطريقة من وجوه :
الأول : أن قوله :« لتنذر » أي ( كَيْفَ ) ما كان سواء كان مفيداً أو لم يكن.
وقوله :﴿ إِنَّما تُنْذِرُ ﴾ أي الإنذار المفيد لا يكون إلا بالنسبة لمن يتبع الذِّكْرَ وَيَخْشَى.
الثاني :( هو ) أنّ الله تعالى لما بين أن الإرسال أو الإنزال للإنذار وذكر ( أن ) الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلأى أهل العناد قال نبيه : ليس إنذارك غيرَ مفيد من جمع الوجوه، فأنِذرْ على سبل العموم وإنما يُنْذَرُ بذلك الإنذارِ العَام من يتبع الذكر كأنه يقول : يا محمد أنذر بإنذارك وتَتَبَّعْ بذكرك.
الثالث : أن يقول : لتنذر أولاً فإذا أنذرت وبالغت ( وبلغت ) واستهزأ البعض وتولى واستكبر فبعد ذلك إنما تُنْذِرُ الِّذِينَ اتَّبَعُوك والمراد بالذكر : القرآن لتعريف الذكر الألف واللام. وقد تقدم ذرك القرآن في قوله تعالى :﴿ والقرآن الحكيم ﴾ [ يس : ٢ ] وقيل : ما في القرآن من الآيات لقوله :﴿ والقرآن ذِي الذكر ﴾ [ ص : ١ ] فما جعل القرآن نفس الذكر. والمعنى إنما تُنْذِرُ العلماءَ الِّذِين يخشون ربهم. وقوله :﴿ وَخشِيَ الرحمن ﴾ أي عمل صالحاً لقوله :﴿ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﴾ وهذا جزاء العمل كقوله :