فصل


هذا الكلام في غاية الحسن لأن لما قال اتبعوا المرسلين كأنهم منعوا كونَهُمْ مرسلين فنزل درجة وقال لا شك أن الخلق في الدنيا سالكون طريقة الاستقامة والطريق إذا كان فيه دليل وجب اتباعه والامتناع من الدليل لا يحسن إلا عند أحد أمرين إما لطالب الدليل الأجرة وإما عدم الاعتماد على اهتدائه ومعرفة الطريق لكن هؤلاء لا يطلبون أجرة وهم مهتدون عالمون بالطريق المستقيمة الموصولة إلى الحق فهب أنهم ليسوا بمرسلين هادين أليسوا بمهتدين فاتبعوهم.
قوله :﴿ وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي ﴾ أصل الكلام وما لكم لا تعبدون ولكنه صرف الكلام عليهم ليكون الكلام أسرع قبولاً ولذلك جاء قوله :﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ دون « وإليه أَرْجِعُ » وقوله ﴿ أَأَتَّخِذُ ﴾ مبني على كلام الأول وهذه الطريقة أحسن من ادِّعاء الالتفات وقرأ حمزةٌ ويعقوبُ ما لي بإسكان الياء والآخرون فتحها واعلم أن قوله :﴿ وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ﴾ أَيْ أيُّ مانع من جانبي وهذا إشارة إلى أن الأمر من جهة المعبود ظاهر لا خفاء فيه فمن يمنع من عبادته يكون من جانبه مانع ولا مانع من جانبي فلا جَرَمَ عبدته وفي العدول من مخاصمة القوم إلى حال نفسه حكمة أخرى وهي أنه لو قال : ما لكم لا تعبدون الذي فطركم « لم يكن في البيان مثل قوله :﴿ وَمَا لِيَ ﴾ لأنه لو قال :» وَمَالِي « وأحد لا يخفى عليه ( حال ) نفسه علم كل أحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد لأنه أعمل بحال نفسه فهو بين عدم المانع وأما لو قال :» وَمَا لَكُمْ « جاز أن يفهم ( منه ) أنه يطلب بيان العلة لكون غيره أعلم بحال نفسه، وقوله :﴿ الذي فَطَرَنِي ﴾ إشارة إلى وجود المقتضي، فإن قوله :» وَمَا لِي « إشارة إلى عدم المانع وعند عدم المانع لا يوجد الفعل ما لم يوجد المقتضي فقوله :﴿ الذي فَطَرَنِي ﴾ دليل المقتضي فإن الخالق ابتداء مالك والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه ومنعمٌ بالإيجاد والمنعم يجب على المنعم عليه شكر نعمته. وقدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضي مع أن المستحسن تقديم ما هو أولى بالبيان للحاجة إليه واختار من الآيات فطرة نفسه لأن خَالِقَ عَمْرو يجب على زيدٍ عبادتُه لأن من خلق عمراً ( لا يكون إلا ) كامل القدرة واجب فهو مستحق العبادة بالنسبة إلى كل مكلف لكن العبادة على » زيد « بخلق » زيد « أظهر إيجاباً

فصل


أضافَ الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم كأن الفطرة أثر النعمة وكان عليه أظهر وفي الرجوع معنى الشكر وكان بهم أليق. روي أن لما قال : اتبعوا المرسلين أخذوه ورفعوه إلى الملك فقال له :»
أَفَأَنْتَ تَتَّبِعُهُمْ « ؟ فقال :﴿ وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي أي شيء يمنعني أن أعبد خالقي وإليه ترجعون تردون عند البعث فيجزيكم بأعمالكم.


الصفحة التالية
Icon