ومعنى فطرني : خلفني اخترعاً ابتداء. وقيل جعلني على الفطرة كما قال تعالى :﴿ فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا ﴾ [ الروم : ٣٠ ].
قوله :﴿ أَأَتَّخِذُ ﴾ استفهام بمعنى الإنكار، أي لا أتخذ من دونه آلهةً و « مِنْ دُونِهِ » يجوز أن يتعلق « بأَتِّخِذُ » على أنها متعدية لواحد وهو « آلهة » ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من « آلهة » وأن يكون مفعولاً ثانياً قدم على أنها المتعدية لاثنين.

فصل


في قوله :« من دونه آلهة » لطيفة وهي أنه لما بين أنه يعبد الذي فطهر بين أن مَنْ دُونَهُ لا يجوز عبادة لأن الكل محتاجٌ مفتقرٌ حادثٌ وقوله :﴿ أَأَتَّخِذُ ﴾ إشارة إلى أن غيره ليس بإلَهِ لأن المتخذ لا يكون إلهاً قوله :« إنْ يُرِدْنِي » شرط جوابه « لاَ تُغْنِ عَنِّ » والجملة الشرطية في محل نصب صفة « لآلهةٍ » وفتح طلحة السَّلْمَانِي - وقيل : بِضُمر بمعنى إن يُورِدْنِي ضُرًّا أي يجعله مَوْرداً للضر قال أبو حيان : وهذا والله اعلم رأى في كتب القراءات بفتح الياء فتوهم أنها ياء المضارعة فجعل الفعل متعدياً بالياء المعدية كالهمزة فلذلك دخل همزة التعدية فنصب به اثنين والذي في كتب القراءات الشواذ أنها ياء الإضافة المحذوفة خطًّا ونطقاً لالتقاء الساكنين قال شهاب الدين : وهذا رجل ثِقَةٌ قد نقل هذا لاقراءة فتقبل منه.
فإن قيل : ما الحِكْمَةُ في قوله ﴿ إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرٍّ ﴾ ولم يقل : إنْ يُرِد الرَّحْمَنُ بِي ضُرًّا وكذلك قوله تعالى :﴿ إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ ﴾ [ الزمر : ٣٨ ] ولم يقل : إن أَرَادَ اللُّهُ بي ضُرًّا؟.
فالجواب : أن الفعل إذا كان متعدياً إلى مفعول واحد تعدى إلى مفعولين بالحرف كالأمر تعدى بالحرف في قولهم : ذَهَبَ به وخَرَجَ به. ثم إن المتكلم البليغ يجعل المفعول بغير حرف أولى بوقوع الفعل عليه ويجعل الآخر مفعولاً بحرف فإذا قال القائل مثلاً : كيف حال فلان؟ يقول : اختصه الملكُ بالكرامة والنعمة. فإذا قال : كيف كرامة الملك؟ يقول : اختصها بزيد فيقول المسؤول مفعولاً بغير حرف؛ لأنه هو المقصود وإذا تقرر هذا فالمقصود فيما نحن فيه : بيان كون العبد تحت تصرف الله يقلبه كيف يشاء في البُؤْسِ والرَّخاء وليس الضر مقصود بيانه كيف والقائل مؤمن يرجو الرحمة والنعمة بناء على إيمانه بحكم وعد الله ويُؤَيِّد هذا قولُه مِنْ قَبْل :« الَّذِي فَطَرَنِي » حيث جعل نفسه مفعول الفطرة فلذلك جعلها مفعول الإرادة ووقع الضر تبعاً وكذلك القول في قوله :« إنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بضُرِّ » المقصود بيان أنه يكون كما يريده الله ( وليس الضر ) لخصوصيته مقصوداً بالذكر ويؤيده ما تقدم حيث قال الله تعالى :


الصفحة التالية
Icon