والثانية : أن ذلك جواب عن سؤال مقدر وهو أن الطَّبيعيِّ يقول : السفينة تَحْمِلُ بمُقْتَضَى الطَّبِيعَة والمجوَّف لا يرسب، فقال : ليس كذلك بل لو شاء الله إغراقهم لأغرقهم وليس كذلك بمُقْتَضى الطبيعة ولو صح كلامه الفاسد لكان لقائل أن يقول : ألست توافق أن من السفن ما ينقلب ونيكسر ومنها ما يثقبه ثاقب فيرسب وكل ذلك بمشيئة الله فإن شاء أغرقهم من غير شيء من هذه الأسباب كما هو مذهب أهل السنة أو شيء من تلك الأسباب التي سلمتها أنت.
قوله :﴿ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ ﴾ فَعِيلٌ بمعنى فاعل لا مغيث لهم وقيل : فلا مُسْتَغيث وقال الزمخشري : فلا إغاثة جعله مصدراً من « أصْرَخَ » قال أبو حيان « ويحتاج إلى نقل أن » صَرِيحاً يكون مصدراً بمعنى إصراخ « والعامة على فتح » صَرِيخَ « وحكى أبو البقاء أنه قرئ بالرفع والتنوين قال : ووجهة على ما في قوله :﴿ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ [ البقرة : ٣٨ ].

فصل


معناه : لا مُغيثَ لهم يمنع عنهم الغَرَقَ »
وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ « إذا أدركهم الغرق لأن الخلاص من العذاب إما أن يكون برفع العذاب من أصله أو برفعه بعد وقوعه فقال :» لاَ صَرِيْخ لَهُمْ « يدفع ولا هم يُنْقَذُونَ بعد الوقوع فيه وهو كقوله تعالى :﴿ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ ﴾ [ يس : ٢٣ ] وفيه فائدة أخرى غير الحصر وهي أنه تعالى قال : لا صَرِيخ لهم ولم يقل : ولا منقذ لهم؛ لأ ( نَّ ) مَنْ لا يكون مِن شأنه أن ينصر لا يشرع في النصر مخافة أن يْغلَبَ ويذهبَ ماءُ وَجْهِهِ وإنما يَنْصُرُ ويغيث من كان من شأنه أن يُغِيثَ فقال :» لاَ صِرِيخَ لَهُمْ « وأما من لا يكون من شأنه أن ينقذ إذا راى من يعين عليه في نصره يشرع في الإنقاذ وإن لم يثِقْ من نفسه في الإنقاذ ولا يغلب على ظنه وإنما يبذل المجهود فقال :» ولا هم ينقذون « ولم يقل : ولا منقذ لهم، ثم استثنى وقال :» إلا رَحْمَةَ مِنَّا وَمَتَاعاً إلى حِينٍ « وهو يفيد أمرين :
أحدهما : انقسام الإنقاذ إلى قسمين : الرحمة والمَتَاع أي فمن عَلِمَ أنه يؤمن فينقذه الله رحمة وفيمن علم أنه لا يؤمن فليمتنع زماناً ويزداد إثمه.
وثاينهما : أنه بيان لكون الإنقاذ غير مفيد للدوام بل الزّوال في الدنيا لا بدَّ منه، فينقذه رحمة ويمتعه إلى حين ثم يميته فإذن الزوال لازم أن يقع. قال ابن عباس المراد »
بالحِينِ « انقضاء آجالهم يعني ( إلاَّ ) أن يرحمهم ويمتعهم إلى حين آجالهم.
قوله :»
إلاَّ رَحْمَةً « منصوب على المفعول له وهو استثناء مفرغ، وقيل : استثناء منقعطع وقيل : على المصدر بفعل مقدَّر، أو على إسقاط الخافض أي إلا برحمةٍ والفاء في قوله :» فَلاَ صَرِيخَ « رابطةٌ لهذه الجملة بما قبلها؛ فالضمير في » لَهُمْ « عائد على المُغْرَقينَ » وجوز ابن عطية هذا ووجهاً آخَر وجعله أحْسَنَ منه وهو أن يكون استئناف إخبار عن المُسَافِرينَ في البحر ناجينَ كانوا مُغْرَقِينَ هم بهذه الحالة لا نجاة لهم إلاَّ برَحْمَةِ الله وليس قوله :﴿ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ ﴾ مربوطاً بالمغرقين انتهى.
وليس جعله هذا الأحسن بالحسن لئلا تخرج الفاء عن مَوْضُوعِهَا والكلام عن التئامِهِ.


الصفحة التالية
Icon