قال ابن الخطيب ولقائل أن يقول : إنهم إذا صعدوا إما أن يَصِلوا إلى مواضع ( الملائكة ) وإلى غير ( تلك ) المواضع فإن وصلوا إلى مواضع الملائكة احترقوا وإن وصلوا إلى غير مواضع الملائكة لم يفوزوا بمقصود أصلاً وعلى كلا التقديرين فالمقصود غير حاصل. وإذا كان الفوز بالمقصود محالاً وجب أن يمتنعوا عن هذا الفعل وألا يقدموا عليه أصلاً بخلاف حال المسافر في البحر فإن الغالب عليهم السلامة والفوز بالمقصود وأما ههنا فالشيطان الذي يسلم من الإحراق إنما يسلم إذا لم يصل إلى مواضع الملائكة وإذا لم يصل إلى ذلك الموضع لم يفز بالمقصود فوجب أن لا يعود إلى هذا العمل البتة والأقرب في الجواب أن يقال هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة فلعلها لا تشتهر بسبب نُدْرَتِهَا فيما بين الشياطين. والله أعلم فإن قيل : دلتنا التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلاً قبل مجيء النبي - ﷺ - ( ولذلك ) فإن الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي - ﷺ - بزمان طويل ذكروا ذلك وتكلموا في سبب حدوثه وإذا ثبت أن ذلك كان موجوداً قبل مجيء النبي - ﷺ - امتنع حمله على مجيء النبي - ﷺ - أجاب القاضي بأن الأقرب أنَّ هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي - ﷺ - ولكنها كثرت في زمان النبي - ﷺ - فصارت بسبب الكثرة معجزةً.
فإن قيل : الشيطان مخلوق من النار كما حكي عن قول إبليس ﴿ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ ﴾ [ الأعراف : ١٢ ] وقال :﴿ والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم ﴾ [ الحجر : ٢٧ ] ولهذا السبب يقدر على الصعود إلى السموات وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار بالنار؟.
فالجواب : يحتمل أن الشياطين وإن كانوا من النِّيران إلا أنَّها نيران ضعيفة ونيران الشهب أقوى حالاً منهم ولا جَرَمَ صار الأقوى للأضعف مبطلاً، ألا ترى أن السراج الضعيف إذا وضع في النار القوية فإنه ينطفئ فكذلك ههنان.
قوله :﴿ لاَّ يَسَّمَّعُونَ ﴾ قرأ الأخوان وَحفصٌ بتشديد السين ( فالميم ) والصل يَسْتَمِعُونَ فأدغم، والباقون بالتخفيف فيهما. واختار أبو عُبَيْدٍ الأولى وقال : لو كان مخففاً لم يتعد بإِلى. وأجيب عنه بأن معنى الكلام لا يسمعون إلى الملأ، وقال مكي : لأنه رجى مجرى مُطَاوِعِهِ وهو يسّمعون فكما كان يسمع يتعدى « بإلى » تعدى سَمِع بإلى، وفَعِلْتُ وافْتَعَلْتُ في التعيدي سواء فتسع مطاوع سمع واستع أيضاً مطاوع سمع فتعدى سمع تعدّي مطاوعه وهذه الجملة منقطعة عما قلها ولا يجوز فيها أن تكون صفة لشيطان على المعنى إذ يصير التقدير : مِنْ شَيْطَانٍ مَارِدٍ غير سامع أو مستمع وهو فاسد، ولا يجوز أن يكون جواباً لسؤال سائل : لم تحفظ من الشياطين؟ إذ يفسد معنى ذلك وقال بعضهم : وأصل الكلام لئلا يسمعوا فحذفت « اللام وأن » فارتفع الفعل وفيه تعسف وقَدْ وَهِمَ أبو البقاء فيجوَز أن تكون صفة وأن تكون حالاً وأن تكون مستأنفة فالأولان ظاهِرَا الفساد والثَّالث إنْ غني به الاستنئاف البياني فهو فاسد أيضاً.