الرابع : لو قلنا : إن سليمان أذن لتلك المرأة في عبادت ( ها ) تلك الصورة فهذا كفر منه ) وإن لم يأذن فيه البتة فالذنب على تلك المرأة فكيف يؤاخذ الله سليمان بفعل لم يصدر منه؟
وأما أهل التحقيق فذكروا وجوهاً :
الأول : أن فتنة سليمان أنه وُلِدَ له ابنٌ فقال الشيطان إن عاش صار ملكاً مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله فعلم سليمان ذلك فكان يربيه في السحاب فبينما هو يشتغل بمهماته إذ لقي ذلك ( الولد ) ميتاً على كرسيه فتنبه على خطيئته في أنه لم يَثِقْ ويتوكلْ على الله فاستغفر ربه وتاب.
الثاني : روي عن النبي - ﷺ - أنه قال :« قَالَ سُلَيْمَانُ لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأةً كُلُّ امْرَأةٍ تَأتِي بِفَارسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَم يَقُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَطَافَ عَلَيْهنّ فَلَمْ تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشقّ رَدل والذي نفسي بِيَدِهِ لو قال إن شاء الله تعالى لَجَاهَدوا في سبيل الله فُرْسَاناً أجْمَعِينَ » فذَلك قولهُ تعالى :﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً ﴾ وذلك لشدة المرض. والعرب تقول في الضعيف :« إنه لَحْمٌ على وَضَم وجسمٌ بلاَ رُوح » « ثُمَّ أَنَاب » أي رَجَعَ إلى حال الصحة. فاللفظ يحتمل لهذه الوجوه ولا حاجة إلى حمله على تلك الوجوه الركيكة.
الثالث : لا يبعد أيضاً أن يقال : إنه ابْتَلاه الله تعالى بتسليط خوفٍ أو وقوع بلاء تَوَقَّعه من بعض الجهات حتى صار بسبب قوة ذلك الخوف كالجَسَدِ الضعيف الخفي على ذلك الكرسي. ثم إن الله تعالة أزال عنه ذلك الخوف وأعاده إلى ما كان عليه من القوة وطيب القلب.
قوله :﴿ جَسَداً ﴾ فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مفعول به لأَلْقَيْنَا.
والثاني : أنه حال، وصاحبها إما سُلَيْمَانُ لأنه يروى أنه مَرِضَ حتى صار كالجَسَد الذي لا رُوحَ فيه، وإما ولده، قالهما أبو البقاء ولكن « جَسَدٌ » جامد فلا بدّ من تأويله بمشتق أي ضعيفاً أو فارغاً.
قوله :﴿ قَالَ رَبِّ اغفر لِي ﴾ تمسك به من حَمَلَ الكلام المتقدم على صدور الزَّلَّة لأنه لو لا تقدم الذنب لما طلب المغفرة ويمكن أن يجاب : بأن الإنسان لا ينفك عن ترك الأفضل والأولى وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسان الأبرار سيئات المقربين ولأنه أبداً في مقام هَضْم النفس وإظهار الذِّلَّة والخضوع كما قال - عليه ( الصلاة و ) السلام- :« إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً » مع انه غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قوله :﴿ وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي ﴾ دلت هذه الآية على أنه يجب تقديم مُهِمّ الدين على مُهِمّ الدينا لأن سليمان طلب المغفرة أولاً ثم طلب المملكة بعده، ثم دلت الآية أيضاً على أن طلب المغفرة من الله تعالى سبب لافتتاح أبواب الخيرات في الدنيا لأن سليمان طلب المغفرة أولاً، ثم توسل به إلى طلب المملكة ونوح - عليه ( الصلاة و ) السلام- قال :


الصفحة التالية
Icon