﴿ واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ يعني القرآن، والقرآن كله حسن، ومعنى الآية ما قال الحسن : الزموا طاعته واجتنبوا معصيته، فإن ( في ) القرآن ذكرَ القبيح ليجتنبه وذكر الأدْوَن لئلا نرغب فيه، وذكر الأحسن لنُؤْثِره، وقيل : الأحسن الناسخ دون المنسوخ، لقوله تعالى :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [ البقرة : ١٠٦ ].
ثم قال :﴿ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ﴾ وهذا تهديد وتخويف والمعنى يفاجئكم العذاب وأنتم غافلون عنه.
واعلم أنه تعالى لما خوفهم بالعذاب بين أنهم بتقدير نزول العذاب عليهم ماذا يقولون؟ فحكم تعالى عليهم بثلاثة أنواع من الكلام :
فالأول :( قوله : أَنْ تَقُولَ « ) مفعول من أجله فقدره الزمخشري : كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولَ، ( وابن عطية : أنيبوا من أجل أن تقول، وأبو البقاء والحَوْفيّ أَنْذَرْنَاكُمْ مَخَافَةَ أن تقول ) ولا حاجة إلى إضمار هذا العامل مع وجود » أَنِيبُوا « وإنما نَكَّر نفساً لأنه أراد التكثير كقول الأعشى :٤٣٠٤- وَرُوبَّ بَقيعٍ لَوْ هَتَفْتُ بِجَوِّهِ | أَتَّانِي كَرِيمٌ يَنْغضُ الرَّأْسَ مُغْضَبَا |
يريد أتاني ( كرام كثيرون لا كريم فَذٌّ لمنافاته المعنى المقصود، ويجوز أن يريد نفساً متميزة عن الأنفس ) باللجاج الشديد في الكفر والعذاب العظيم.
قوله :﴿ ياحسرتا ﴾ العامة على الألف بدلاً من ياء الإضافة، وعن ابن كثير : يَا حَسْرَتَاه بهاء السكت وَقْفاً وأبو جعفر يَا حَسْرَتي على الأصل وعنه أيضاً : يَا حَسْرَايَ بالألف والياء وفيها وجهان :
أحدهما : لاجمع بين العِوَض والمُعَوَّضِ مِنْهُ.
والثاني : أنه تثنية » حَسْرَة « مضافة لياء المتكلم، واعترض على هذا بأنه كان ينبغي أن يقال : يَا حَسْرَتَيَّ- بإدغام ياء النصب في ياء الإضافة - وأُجِيبَ : بأنه يجوز أن يكون راعى لغة الحَرْثِ بن كَعْب وغيرهم نحو : رَأَيْتُ الزَّيْدَانِ، وقيل : الألف بدل من الياء والياء ( بعدها ) مزيدة.
وقيل : الألف مزيدة بين المتضايفين وكلاهما ضعيف.
قوله :» عَلَى مَا فَرَّطت « ما مصدرية أي على تَفْريطي، وثمَّ مضاف أي في جنب طاعة الله، وقيل : في جنب الله المراد به الأمر والجِهَةُ يقال : هُوَ في جَنْبِ فُلاَنٍ وَجانِبِهِ أي جِهَتِهِ ونَاحِيَتِهِ قال :
٤٣٠٥- النَّاسُ جَنْبٌ وَالأَمِيرُ جَنْبُ... وقال آخر :٤٣٠٦- أفِي جَنْبِ بَكْرٍ قَطَّعَتْنِي مَلاَمةً | سُلَيْمَى لَقَدْ كَانَتْ مَلاَمَتُهَا ثِنَى |
ثم استع فيه فقيل : فَرّط في جَنْبِهِ أي في حَقِّه، قَالَ :٤٣٠٧- أَمَا تَتَّقِينَ اللًَّهَ فِي جَنْبِ عَاشِقٍ | لَهُ كَبْدٌ حَرَّى عَلَيْكِ تَقَطّعُ |
( فصل )
المعنى : أن تقول نفس يا حسرتي يعني لأن تقول : نفس كقوله :﴿ وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ [ النحل : ١٥ ] و [ لقمان : ١٠ ] أي لئَلاَّ تَمِيدَ بكم، قال المبرد : أي بَادِرُوا وَاحذَرُوا أنْ تَقُولَ نفس، قال الزجاج : خوفَ أن تصيروا إلى حال تقولون يا حسرتنا يا ندامتا والتحسر الاغْتمَام على ما فات، وأراد : يا حَسرتي على الإضافة لكن العرب تحول ياء الكناية ألفاً في الاستغاثة فتقول : ياَ وَيْلَتَا، ويَا نَدَامَتَا، وربما ألحقوا بها الياء بعد الألق ليدل على الإضافة كقراءة أبي جعفر المتقدمة، وقيل : معنى قوله :﴿ ياحسرتا ﴾ أي يا أيَّتُهَا الحَسْرَةُ هذا وَقْتُكِ قال الحسن : قَصَّرْتُ في طاعة الله، وقال مجاهد : في أمر الله، وقال سعيد بن جبير في حق الله، وقيل : قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله، والعرب تمي الجنب جانباً؟ز
ثم قال :﴿ وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين ﴾ المستهزئون بدين الله، قال قتادة ولم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى جعل السخر بأهل طاعته، ومحل » وَإنْ كُنْتُ « النصب على الحال كأنه قال فرطت وأنا ساخر أي فرطت في حال سخْرَتِي.