والمقصود من ذلك التقسيم أنه لا حاجة بكم إلى قتله بل يكفيكم أن تُعْرِضُوا عنه وأن تمنعوه من إظهار دينه. وأما الجواب عن الوجه الثاني : وهو قوله كان الأولى أن يقال :« يصيبكم كل الذي يعدكم » فهو من وجوه :
الأول : أن مدار هذا الاستدلال على إظهار الإنصاف وترك اللَّجَاجِ؛ لأَنَّ المقصود منه وإن كان كاذباً كان ضرر كذبه مقصوراً عليه وِإن كان صادقاً فلا أقلَّ من أن يصيبكُم بعض ما يعدكم وإن كان المقصود من الكلام هذا صح، ونظيره قوله ﴿ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ [ سبا : ٢٤ ].
والثاني : أنه ﷺ كان يتوعّدهم بهم بعذاب الدنيا وبعذاب الآخرة، فإذا وصل إليهم في الدنيا عذاب الدنيا فقد أصبهم بعض الذي وعدهم به.
الثالث : قال الزمخشري :« بعض » على بابها وإنما قال ذلك ليهضم موسى بعضَ حَقِّهِ في ظاهر الكلام فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافياً فضلاً عن أن يتعصب له. وهذا أحسن من قول أبي عبيدة وغيره أن بعض بمعنى كل، وأَنْشَدَ قَوْلَ لَبيدٍ :
٤٣٣٣ تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أَرْضَهَا | أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضُ النُّفُوسِ حِمَامُها |
وأنشد أيضاً قول عمرو بن شُيَيْمٍ :٤٣٣٤ قَدْ يُدْرِكُ المُتأنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ | وَقَدْ يَكُونُ مع المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ |
وقول الآخر :٤٣٣٥ إنَّ الأُمُورَ إذَا الأَحْدَاثُ دَبَّرهَا | دُونَ الشُّيُوخِ تَرَى فِي بَعْضِهَا خَلَلاَ |
قال شهاب الدين : ولا أدري كيف فهموا
« الكل » من البيتين الأخيرين، وأما الأول ففيه بعض دليل لأن الموت يأتي على الكل. قال ابن الخطيب : والجمهور على أن هذا القول خطأ قالوا : وأراد لبيدٌ ببعض النفوس نفسه، ومعنى البيت أنه وصف نفسه أنه نَزَّالُ أمكنةٍ أي كثيرُ المنزول في أماكن لا يرضاها إلا أن يربط نفسه الحِمام وهو الموت، وقال اللَّيْثُ : بعض ههنا صلة يُريد يصبكم الذي يعدكم. لما حكى الزمخشري قول أبي عبيدة أن
« بعض » بمعنى
« الكل » وأنشد عنه بيت لبيد قال : إن صحت الرواية عنه فقد حق فيه قولُ المَازِنِيِّ في مسألة العَلْقَى : كان أجْفَى من أن يفقه ما أقول له. قال شهاب الدين : ومسألة المازني معه : هي أن أبا عبيدة قال للمازني : ما أكذب النحويين يقولون هاء التأنيث لا تدخل على ألف التأنيث، فإن الألف في عَلْقَى ملحقة، قال : فقلت له وما أنكرت من ذلك؟ فقال : سمعت رؤبة يُنْشِدُ :
٤٣٣٦ يَنْحَطُّ فِي عَلْقَى............. | .................................... |
فمل ينونهنا، فقلت : ما واحد علقى؟ قال : عَلْقَاة، قال المازني : فأَسِفْتُ ولم أفسر له لأنه كان أغلظمن أن يفهم مثل هذا. قال شهاب الدين : وإنما استغلظه المازني؛ لأن الألف التي للإلحاق قد تدخل عليها تاء التأنيث ( دالة على الوحدة فيقال : أَرْطَى، وأَرْطَامة، وإنما الممتنع دخولها على ألف التأنيث ) نحو : دَعْوَى، وصَرْعَى.