قوله تعالى :﴿ إِنَّ المجرمين ﴾ أي المشركين ﴿ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾ لما ذكر الوعد أردفه بالوعيد على الترتيب المستمر في القرآن. واحتج القاضي على القطع بوعيد الفساق بهذه الآية فقال : لفظ المجرم بتناول الكافر والفاسق، فوجب كون الكل في عذاب جهنم.
وقوله :﴿ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾ و « خالدون » بدل على الخلود.
والجواب : إن ما قبل الآية وما بعدها يدل على أن المراد من لفظ المجرم ههنا الكافر.
فأما قبل الآية فقوله : يَا عِبَادِي لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْم وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا بآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ. وهذا يدل على أن كل من آمن بآياتِ الله وكان مسلماً، فإنه يدخل تحت قَوله :« يَا عِبَادِي لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْم » والفاسق من أهل الصلاة آمن بالله وآياته وأسلم فوجب أن يدخل تحت ذلك الوعد، وأن يخرج من هذا الوعيد. لكن وأما بعد الآية فقوله تعالى :﴿ لَقَدْ جِئْنَاكُم بالحق ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ والمراد بالحقّ ههنا إما الإسلام وإما القرآن، والرجل المسلم لا يكره الإسلام ولا القرآن. فثبت أن ما قبل الآية وما بعدها يدل على أن المراد من المجرمين الكفار. والله أعلم.
قوله :﴿ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ ﴾ جلمة حالية وكذلك ﴿ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾ وقرأ عبدالله :« وَهُمْ فِيهَا » أي في النار لدلالة العذاب عليها. واعلم أنه قد تقدم أن الخلود عبارة عن طول المُكْث، ولا يفيد الدوام.
وقوله :﴿ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ ﴾ أي لا يخفف فلا ينقص من قولهم : فَتَرَتْ عَنْهُ الحُمَّى إذا سكَنَتْ ونقص حَرُّهَا.
وقوله :﴿ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾ والمُبْلِسُ هو اليائس الساكت سكوت يائس من فَرَجٍ.
عن الضحاك : يُعقل المجرم في تابوت من نار، ثم يُقْفَلُ عليه فيبقى خالداً لا يرى ولا يرى.
قوله :﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين ﴾ العامة على الياء خبراً لكان، و « هم » إما فصل، وإمَّا توكيد، وقرأ عبدالله وأبو زَيْدٍ النحويات : الظَّالِمُونَ على أنه مبتدأ و « الظالمون » خبره والجملة خبر كان. وهي لغة تميم.
قال أبو زيد : سمعتهم يَقْرَأُونَ :﴿ تَجِدُوهُ عِندَ الله هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ﴾ [ المزمل : ٢٠ ] بالرفع. وقال قيس بن ذُرَيْح ( الشاعر )

٤٤١٨ تَحِنُّ إلَى لَيْلَى وَأَنْتَ تَرَكْتَهَا وَكُنْتَ عَلَيْهَا بالمَلاَ أَنْتَ أَقْدَرُ
برفع « أقدر » و « أنت » فصل أو توكيد.
قال سيبويه : بلغنا أن رؤبة كان يقول : أَظُنُّ زَيْداً هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ يعني بالرفع.

فصل


احتج القاضي بقوله :﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين ﴾ فقال : إن كان خلق فيهم الكفر ليدخلهم النار فما الذي نفاهُ بقوله :{ وَمَا ظَلمناهم ( ولكن كانواهم الظالمين ) « ؟ وما الذي نسبه إلبيهم مما نفاه عنه نفسه؟ أو ليس لو أثبتناه لهم كان لا يزيد عما قوله القوم؟ فإن قالوا ذلك الفعل لم يقع بقدرة الله عزّ وجلّ بل إنما وقع بقدرة الله مع قدرة العبد معاً فلم يكن ذلك ظلماً من الله تعالى : قلنا : عندكم القدرةُ على الظلم موجبة للظلم، وخالق تلك القدرة هو الله تعالى، وكأنه تعالى لما فعل مع خلق الكفر قدرة على الكفر خرج من أن يكون ظلماً لهم، وذلك محال، لأن من يكون ظالماً في فعله إذا فعل معه ما يوجب ذلك الفعل يكون ذلك أحق فيقال للقاضي : قدرة العبد هل هي صالحة للطرفين أو هي متعيِّنة لأحد الطرفين؟ فإن كانت صالحة لكلا الطرفين فالترجيح إنْ وقع لا لمرجّح، لزم نفي الصانع، وإن افتقر إلى مرجَّح عاد التقسيمُ الأول، وأن ينتهي إلى داعية مرجحة يخلقها الله تعالى في العبد، وحينئذ يلزمك ما ألزمته علينا.


الصفحة التالية
Icon