وجاء في الحديث :« أَعوذُ بِرِضاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وبِكَ مِنْكَ، لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ ».
قوله :« المُبين » هو المشتمل على بيان ما بالناس من حاجة إليه في دينهم ودنياهم فصوفه بكونهن مبيناً وإذا كانت حقيقة الإبانة لله تعالى، لأن الإبانةَ حَصَلَتْ به، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ على بني إِسْرَائِيلَ ﴾ [ النمل : ٧٦ ] وقوله :﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص ﴾ [ يوسف : ٣ ] وقوله :﴿ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ ﴾ [ الروم : ٣٥ ] فوصفه بالتكلم، إذ كان غاية في الإبانة، فكأنه ذُو لسانٍِ ينطق مبالغةً.

فصل


قال قتادة وابنُ زيد وأكثر المفسرين : المراد بقوله : إنا أنزلناه في ليلة مباركة هي ليلة القدر. وقال عكرمة وطائفة : إنها ليلة البَرَاءَة وهي ليلة النصفِ مِن شعبان. واحتج الأولون بوجوه :
الاول : قوله تعالى :﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر ﴾ [ القدر : ١ ] وقوله : ههنا :﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾ فوجب أن تكون هي تلك الليلة المسماة بليلة القدر لئلا يلزم التناقض.
الثاني : قوله تعالى :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] فقوله ههنا :﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾ [ الدخان : ٣ ] فيجب أن تكون تلك الليلة المباركة في رمضان فثبت أنها ليلة القدر.
الثالث : قوله تعالى :﴿ تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ﴾ [ القدر : ٤ ] وقال ههنا :﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ وقال ههنا :﴿ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ وقال في ليلة القدر :﴿ سَلاَمٌ هِيَ ﴾ [ القدر : ٥ ]، وإذا تقاربت الأوصاف وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الأخرى.
الرابع : نقل محمد بن جَرير الطَّبري في تفسيره عن قتادة أنه قال : نزلت صحفُ إبراهيم في أول ليلة من رمضان والتوراة لست ليال منه والزبور لثنتي عشرة ليلة مضت منه، والإنجيل لِثماني عشرة ليلةً مضت منه، والقرآن لأربعٍ وعشرينَ مضت منه، والليلة المباركة هي ليلة القدر.
الخامس : أن ليلة القدر إنما سميت بهذا الاسم لأن قدرها وشرفها عند الله عظيم ومعلوم أنه ليس قدرها وشرفها لسبب نفس الزمان، لأن الزمان شيء واحد في الذات والصفات، فيمتنع كون بعضه أشرف من بعض لذاتهخ فثبت أن شرفه وقدره بسبب أنه حصل فيه أمورٌ شريفة لها قدر عظيم، ومن المعلوم أن منصب الدين أعظم من مناصب الدنيا، وأعظم الأشياء وأشرفها منصباً في الدين هو القرآن؛ لأنه ثبت به نبوة محمد ﷺ وبه ظهر الفرق بين الحق والباطل كما قال تعالى في صفته :« وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ : وبه ظهرت درجات أرباب السعادات ودركات أرباب الشقاوات فعلى هذا لا شيء إلا والقرآن أعظم قدراً، وأعْلَى ذكراً وأعظم منصباً، وحيث أطبقوا على أن ليلة القدر هي التي وقعت في رمضان علمنا أن القرآن إنما أنزل في تلك الليلة.


الصفحة التالية
Icon