﴿ واقتلوهم حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ ﴾ [ النساء : ٩١ ].
فإن قيل : ما الفائدة في قوله ههنا :﴿ فَضَرْبَ الرقاب ﴾ بإضمار الفعل وإظهار المصدر، وقال في الأنفال :﴿ فاضربوا فَوْقَ الأعناق ﴾ [ الأنفال : ١٢ ] بإظهار الفعل وترك المصدر؟!.
فالجواب مبني على تقديم مقدَّمة، وهي أن المقصود في بعض الصور قد يكون صدور الفعل من فاعل ويتبعه المصدر ضمناً؛ إذ لا يمكن أن يفعلَ فاعل إلا فاعل، فيطلب منه أن يفعل مثاله من قال : أنِّي حَلَفْتُ أن أخْرُج مَن المدينة، فيقال له : فاخْرج صار المقصود صدور الفِعْل منه والخروج في نفسه غير مقصود الابتعاد ولو أمكن أن يخرج من غير تحقق الخروج منه لما كان عليه أن لا يَخْرُج لكن في ضرورة الخروج أن يخرج. فإذا قال قائل صادق : ضَاقَ بي المكانُ بسبب الأعداء فيقال مثلاً : الخروج يعني الخروج فاخرج فإن الخروج هو المطلوب، حتى لو أمكن الخروج منغير فعل منه، لحصل الغرض لكنه محال فيعبته الفعل. وإذا عرف هذا فيقال : في الأنفال الحكاية عن الحرب الكائنة، وهم كانوا فيها والملائكة أنزلوا للنّصرة ( و ) من حضر في صفِّ القتالِ، فصدور الفعل منه مطلوب. وههنا الأمر وارد ليس في وقتِ القِتال، بدليل قوله تعالى :﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ ﴾ والمقصود بيان كون المصدر مطلوباً لتقدم المأمُورِ على الفِعْل قال :﴿ فَضَرْبَ الرقاب ﴾. وفي ذلك بيان فائدة أخرى، وهي أن الله تعالى قال هناك ﴿ واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ [ الأنفال : ١٢ ] وذلِكَ لأن الوقت وقت القتال فأرشدهم إلى القتل وغيره إن لم يصيبوا المقتل وههنا ليس وقت القتال. فبين أن المقصود القتل وغرض المسلم ذلك.
قوله :﴿ حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ ﴾ هذه غاية للأمر بضرْب الرِّقاب، لا لبيان غاية القتل. وقوله :﴿ فَشُدُّواْ الوثاق ﴾ قرأ السُّلَمِيُّ : فَشِدُّوا بكسر الشين وهي ضعيفة جِدًّا. والوَثَاقُ بالفتح وفيه الكسر اسم ما يُوثَقُ به والمعنى حتى إذا أثْخَنْتُمُوهُمْ أي بالَغْتُم في القتل وقَهَرْتُمُوهُمْ فشدّوا الوثاق يعني في الأسر حتى لا يَفْلِتوا. والأسر يكون بعد المبالغة في القتل كقوله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض ﴾ [ الأنفال : ٦٧ ].
قوله :﴿ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً ﴾. فيهما وجهان :
أشهرهما : أنهما منصوبان على المصدر بفعل لا يجوز إظهاره؛ لأن المصدر متَى سبق تفصيلاً لعاقبة جملة وجب نصبه بإِضمار فعل لا يجوز إظهاره، والتقدير : فَإِمَّا أنْ تَمُنُّوا وَإِمَّا أَنْ تُفَادُوا فِدَاءً ومثله :
٤٤٦٣ لأَجْهَدَنَّ فَإِمَّا دَرْءَ وَاقِعَةٍ | تُخْشَى وَإِمَّا بُلُوغَ السُّؤْلِ وَالأَمَلِ |
قال أبو حيان : وليس بإعرابِ نَحْويًّ.
وقرأ ابن كثير : فِدًى بالقصر قال أبو حاتم : لا يجوز، لأنه مصدر فَادَيته. ولا يُلْتَفَتُ إليه؛ لأن الفرّاء حكى فيه أربع لغات المشهور المدّ والإعراب : فِدَاءً لَكَ، وفَدَاءِ بالمد أيضاً والبناء على الكسر، والتنوين، وهو غريب جداً.