الثاني : أن الله تعالى يَبْلُو ليظهر الأمر لغيره، إما للملائكة، أو للناس والتحقيق هو أن الابتلاء والاختبار فعل يظهر بسببه أمر ظاهر.
فإن قيل : فائدة الابتلاء حصول العلم عند المبتلي، فإذا كان الله عالماً فَأَيُّ فائدةٍ فيه؟
فالجواب : أن هذا السؤال كقول القائل لم عاقب الكافر وهو مُسْتَغْنٍ؟ ولم خلق النار مُحْرِقَةً وهو قادر على أن يخلقها بحيث تنفع ولا تضر؟ وجوابه : لاَ يُسْألُ عَمَّا يَفْعَلُ ( وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) ؟
قوله :﴿ والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله ﴾ قرأ العامة قَاتَلُوا. وأبو عمرو وحفصٌ قُتِلُوا مبنياً للمفعول على معنى أنهم قُتِلُوا وماتوا؛ أصاب القتل بعضهم كقوله :﴿ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ ﴾ [ آل عمران : ١٤٦ ]. وقرأ الجَحْدَرِيّ : قَتَلُوا بفتح القاف والتاء خفيفة ومفعوله محذوف. وزيد بن ثابت والحسن وعيسى قُتِّلُوا، بتشديد التاء مبنياً للمفعول.
قوله :﴿ فلن يضل أعمالهم ﴾ قرأ على رضي الله عنه يُضَلَّ مبنياً للمفعول أَعْمَالُهُمْ بالرفع لقيامه مقام الفاعل. وقرىء : تَضِلَّ بفتح التاء أَعْمَالُهُمْ بالرفع فاعلاً. والفاء في قوله :« فَلَنْ يُضِلّ » جَزَائية؛ لأن قوله تعالى :﴿ والذين قُتِلُواْ ﴾ فيه معنى الشرط. قال قتادة : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أُحُدٍ، وقد
فَشَتْ في المسلمين الجِرَاحَاتُ والقَتْلُ.
قوله :﴿ سَيَهْدِيهِمْ ﴾ أيام حياتهم في الدنيا إلى أرشد الأمور وفي الآخرة إلى الدرجات ﴿ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ﴾ برضى خصمائهم وتقبل أعمالهم. وقد تقدم تفسيره في قوله تعالى :﴿ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ﴾ والماضي والمستقبل راجحٌ إلى أن هناك وعدهم ما وعدهم بسبب الإيمان، والعمل الصالح، وكان قد وقع منهم فأخبر عن الجزاء أيضاً بصيغة الوقوع.
وههنا وعدهم بسببه القتل والقتال وكان في اللفظ ما يدل على الاستقبال، لأن قوله ﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ ﴾ يدل على الاستقبال فقال :﴿ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الجنة ﴾.
قوله :﴿ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾ يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون مستأنفة.
والثاني : أن تكون حالاً.
فيجوز أن تضمر « قد »، وأن لا تضمر، و « عَرَّفَهَا » من التعرف الذي هو ضد الجَهْل والمعنى أن كل أحد يعرف منزله في الجنة. وقيل : الملك الموكل بأعماله يهديه.
وعن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) أنه من العَرْفِ وهو الطيب أي طيِّبهَا لهم.
وقال الزمخشري : يحتمل أن يقال : عرَّفَهَا لهم من عرَّفَ الدَّارَ وأَوْرَثَها أي حددها، وتحديدها في قوله تعالى :﴿ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض ﴾ [ آل عمران : ١٣٣ ]، ويحتمل أن يقال : المراد هو قوله تعالى لهم :﴿ وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا ﴾ [ الزخرف : ٧٢ ] فيشير إليه معرفاً لهم بأها هي تلك. وقيل : عرفها لهم وقت القتل، فإن الشهيد وقت وفاته يُعْرَضُ عليه منزلة في الجنة فيشتاقُ إليه. وقرأ أبو عمرو في رواية ويِّدْخِلْهُمْ بسكون اللام وكذا ميم ويُطْعِمُهُمْ وعين ﴿ لَيَجْمَعَنَّكُمْ ﴾ [ النساء : ٨٧ ] كان يستثقل الحركات. وقد تقدم له قراءة بذلك في ﴿ يُشْعِرُكُمْ ﴾ [ الأنعام : ١٠٩ ] و ﴿ يَنصُرْكُمْ ﴾ [ محمد : ٧ ] وبابه.