قوله ( تعالى ) :﴿ إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات ﴾ هذا بيان لحال من كان في ( مقابلة من تقدم، فإن الأول غَضَّ صوته، والآخر رفعه، وفيه إشارة إلى ترك الأدب من وجوه :)
أحدهما : النداء، فإن نداء الرجل الكبير قبيح بل الأدب الحضور بين يديه وعرض الحاجة إليهِ.
الثاني : النداء من وراء الحجرات، فإن من ينادي غيره ولا حائل بينهما لا يكلفه المَشْيَ والمجيئَ بل يجيئه من مكانه وكلمه ومن ينادي غيره مع الحائل يريد منه حضوره.
الثالث : قوله « الحجرات » يدل على كون النبي ﷺ في خَلْوَتِهِ التي لا يمكن إتيان المحتاج إليه في حاجته ( في ) ذلك الوقت بل الأحسن التأخير وإن كان في وَرْطَةِ الحاجة.
قوله :« مِنْ وَرَاء » « مِنْ » لابتداء الغاية. وفي كلام الزمخشري ما يمنع أن « مِنْ » يكون لابتداء الغاية وانتهائها قال : لأ، الشيء الواحد لا يكون مبدأ للفعل ومنتهًى له.
وهذا الذي أثبته بعض الناس وزعم أنها تدل على ابتداء الفعل وانتهائه في جهة واحدة نحو : أَخْذْتُ الدِّرْهَمَ مِنَ الكِيسِ.
والعامة على الحُجُرَات بضمتين وأبو جعفر وشَيْبَةُ بفَتْحها. وابن أبي عبلَة بإسانها. وهي ثلاث لغات وتقدم تحقيقها في البقرة في قوله :« في ظُلُمَاتٍ ».
الحُجْرَةُ فُعْلَةٌ بمعنى مفعولة كغُرْفَة بمعنى مَغْروفَة. قال البغوي : الحُجُرَاتُ جمع الحُجْرَةِ فهي جَمْعُ الجَمْعِ.

فصل


ذكروا في سبب النزول وجوهاً :
الأول : قال ابن عباس : بعث رسولُ الله ﷺ سريّةً إلى بني العَنْبر، وأمر عمليهم عُيَيْنَة بن حِصْنٍ الفَزَاريّ، فلما علما هربوا وتركوما عيالهم، فَسَبَاهُمْ عيينة، وقدم ( بهم ) على رسول الله ﷺ فجاء بعد ذلك رجالهم يفدونَ الذَّرَارِي فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله ﷺ قائلاً في أهله فلما رأتهم الذَّرَارِي أجْهَشُوا إلى آبائهم يبكون وكانت لكل امرأة من نساء رسول الله ﷺ حُجْرةٌ فجعلوا أن يخرج إليهم رسول الله ﷺ فجعلوا ينادون : يا محمد اخْرُجُ إلينا حتى أيقظُوه من نومه فخرج إليهم، فقالوا يا محمد : فادنا عيالنا، فنزل جبريل ( ﷺ ) فقال : إن الله يأمرك أن تجعل بين وبنيهم رجلاً فقال لهم رسول الله ﷺ أتَرْضُون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو وهو على دينكم؟ فقالوا : نعم؛ قال سبرة : أنا لا أحكم وعمي شاهد وهو الأعور بن بشامة؛ فرضوا به فقال الأعور : أرى ( أن ) تفادي نصفهم وأعتق نصفهم. فأنزل الله :﴿ إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ وصفهم بالجهل وقلة العقل.


الصفحة التالية
Icon