كقوله تعالى :﴿ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ﴾ [ الأنفال : ١ ] وقيل : إلى التقوى، لأن من خاف الله لا يبقى له عدو إلا الشيطان، لقوله :﴿ إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً ﴾ [ فاطر : ٦ ].
فإن قيل : كيف يصح في هذا الموضع كلمة « إنْ » من أنها تستعمل في الشرط الذي لا يتوقع وقوعه وبغي أحدهما عند الاقتتال متحقق الوقوع فيكون مثل قوله القائد : إنْ طَلَعْتْ الشَّمْسُ؟
فالجواب : أن فيه معنى لطيفاً وهو أن الله تعالى يقول : الاقتتال بين طائفتين لا يكون إلا نادر الوقوع لأن كل طائفة تظن أن الأخرى فئة الكفر والفساد كما يتحقق في الليالي المظلمة، أو يقع لكل طائفة أن القتال جائز باجتهاد
خطأ، فقال تعالى : الاقتتال لا يقع إلى كذا فإن بَانَ لَهُمَا أو لأحدهما الخطأ واستمرّ عليه فهو نادر وعند ذلك يكون قد بغى فقال :« فَإنْ بَغَتْ » يعني بعد انكشاف الأمْر، وهذا يفيد النُّدْرة وقِلَّةَ الوقوع.
فإنْ قيل : لم قال : فإنْ بَغَتْ ولم يقل : فَإن تَبْغِ؟
فالجواب : ما تقدم في قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ اقْتَتَلُوا « ولم يقل : يَقْتَتلُوا.
قوله :» حَتَّى تَفِيء « العَامة على همزة من فَاء يَفِيءُ أي رَجَعَ كجَاء يَجِيءُ.
والزهري : بياء مفتوحة كمضارع وَفَا وهذا على لغة من يقصر فيقال :» جاَ، يَجِي « دون همز؛ وحينئذ فتح الياء لأنها صارت حرف الإعراب.
فصل
المعنى حتى تفيء إلى أمر الله في كتابه وهذا إشارة إلى أن القتال جزاء الباغي كحدِّ الشرب الذي يُقَامُ وإن ترك الشرب بل القتال إلى حدّ الفيئة، فإن فاءت الفئةُ الباغيةُ حَرُم قتالهُم. وهذا يدل على جواز قتال الصَّائِل، لأن القتال لما كان للفيئة فإذا حصلت لم يوجد المعنى الذي لأجله القتال. وفيه دليل أيضاً على أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بفعل الكبيرة؛ لأن الباغي من أحدى الطَّائِفَتَيْنِ وسماهما مؤمنين.
قوله :» فَإِنْ فَاءَاتْ « أي رَجَعَتْ إلى الحَقِّ.
فإن قيل : قد تقدم أن » إنْ « تدل على كون الشرط غير متوقع الوقوع وقلتم بأن البغي من المؤمن نادرٌ فإذن تكون الفئةُ متوقعةً فيكف قال :» فَإنْ فَاءَتْ « ؟
فالجواب : هذا كقول القائل لعبده : ن مُتّ فَأَنْتَ حُرٌّ، مع أن الموت لا بدّ من وقوعه لكن لما كان وقوعه بحيث لا يكون العبد مَحَلاًّ للعِتْق بأن يكون باقياً في ملكه حياً يعيش بعد وفاته غير معلوم. فكذلك ههنا لما كان المتوقَّع فيئتهم من تلقاء أنفسهم لما لم يقع دل على تأكيد الأمْر بينهم فقال تعالى :{ فَإنْ فَاءتْ ﴾ أي بعد اشتداد الأمر والتحام القتال فَأَصْلِحُوا، وفيه إشارة إلى أنَّ من لم يَخفِ الله وبغى يكون رجوعه بعيداً.
قوله :﴿ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل ﴾ بحملهما على الإنصاف والرضا بحكم الله » وَأَقْسِطُوا « اعِدْلُوا ﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين ﴾.