وقوله :« آتاهُمْ » لبيان ( أن ) أخذهم ذلك لم يكن عَنْوَةً، وإنما نال ذلك بإعطاء الله تعالى. وعلى هذا الوجه « ما » راجعة إلى الجَنَّاتِ والعُيُون.
وقوله :﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ﴾ إشارة إلى أنهم أخذوها بثَمنها وملكوها بالإحسان في الدنيا، والإشارة بذلك إما لدخول الجنة، وإما لإيتاء الله، وإما ليوم الدين، والإحسان هو قول لا إله إلا الله؛ ولهذا قيل في معنى كلمة التقوى : إنها لا إله إلا الله، وفي قوله تعالى :﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله ﴾ [ فصلت : ٣٣ ] وقوله :﴿ هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان ﴾ [ الرحمن : ٦٠ ] هو الإتيان بكلمة لا إله إلا الله.
قوله :﴿ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ ﴾ وهذا كالتفسير لكونهم مُحْسِنِينَ، وفيه أوجه :
أحدها : أن الكلام تَمَّ على « قَلِيلاً » ولهذا وقف بعضهم على قليلاً ليؤاخي بها قوله تعالى :﴿ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ﴾ [ ص : ٢٤ ] ﴿ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور ﴾ [ سبأ : ١٣ ] ويبتدئ :﴿ مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ ﴾ أي ما يهجعون من الليل. والمعنى كانوا من الناس قليلاً، ثم ابتدأ فقال : ما يَهْجَعُون وجعله جَحْداً أي لا ينامون بالليل ألبتة يقومون للصلاة والعبادة. وهو قول الضحاك ومقاتل. وهذا لا يظهر من حيث المعنى، ولا من حيث الصناعة، أما الأول فلا بد أن يهجعوا، ولا يتصور نفي هجوعهم، وأما الصناعة فلأن « ما » في حيز النفي لا يتقدم عليه عند البصريين. هذا إن جعلتها نافية، وإِن جعلتها مصدرية صار التقدير من الليل هُجُوعُهُمْ. ولا فائدة فيه، لأن غيره من سائر الناس بهذه المثابة.
الثاني : أن تجعل « ما » مصدرية في محلِّ رفع « بِقَلِيلاً »، والتقدير : كَانُوا قليلاً هُجُوعُهُمْ.
الثالث : أن تجعل ما المصدرية بدلاً من اسم كان بدل اشتمال أي كان هُجُوعُهُمْ قليلاً. و « مِنَ اللَّيْلِ » على هذين لا يتعلق ب « يهجعون » لأن ما في حَيِّز المصدر لا يتقدم عليه على المشهور. وبعض المانعين اغتفروا في الظرف فيجوزُ هذا عنده والمانع يقدر فعلاً يدل عليه :« يَهْجَعُونَ مِنَ اللَّيْل ».
الرابع : أن « ما » مزيدة و « يَهْجَعُون » خبر كان، والتقدير : كَانُوا يهجعون من الليل هُجُوعاً قَلِيلاً، أو زمناً قليلاً، ف « قَليلاً »، نعت لمصدر أو ظرف.
الخامس : أنها بمعنى الذي، وعائدها محذوف تقديره : كَانُوا قليلاً من الليل الوقت الذي يهجعونه. وهذا فيه تَكَلُّفٌ.

فصل


قال ابن الخطيب :« قليلاً » منصوب على الظرف تقديره يهجَعونَ قليلاً يقال : قام بَعْضَ الليل، فنصب « بعض » على الظرف، وخبر كان هو قوله :« يَهْجَعُونَ » و « ما » زائدة هذا منقول عن الضَّحَّاك ومقاتل.
وأنكر الزمخشري كون « ما » نافية، وقال : لا يجوز أن تكون نافية؛ لأن ما بعدها لا يعمل فيها قبلها لا تقول : زَيْداً ما ضَرَبْتُ ويجوز أن يعمل ما بعد « لم » فيما قبلها، تقول : زَيْداً لَمْ أَضْرِبْ وذلك أن الفعل المتعدي إنما يعمل في النفي حملاً له على الإثبات لأنك إذا قلت : ضَرَبَ زيدٌ عمراً ثبت تعلق فعله بعمرو.


الصفحة التالية
Icon