وقوله : أقمتُ فيها يدل على إحاطتها به، فإذن قول القائل : أَقَمْتُ بالبَلَدِ، ودَعَوْتُ بالأَسْحَارِ أعمُّ مِنْ قوله : أقمتُ فِيهِ؛ لأن القائم فيه قائمٌ به والقائم به ليس قائماً فيه.
وإِذا علم هذا فقوله :﴿ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ إشارة إلى أنهم لا يُخْلُونَ وقتاً عن العبادة وأنهم بالليل لا يهجعون، ومع أول جزء من السحر يتسغفرون فيكون فيه بيان كونهم مستغفرين من غير أن يسبق منهم ذنب، لأنهم وقت الانتباه لم يُخْلوا الوقت للذنب. ولا يطرد استعمال الباء بمعنى « في »، فلا تقول : خَرَجْتُ بِيَوْم الجُمُعَةِ لأن يوم الجمعة مع أنه زمان فيه خُصُوصيَّات وتقييدات زائدة على الزمان، لأنك إذا قلت : خَرَجْتُ بِنَهَارِنَا وبلَيْلَةِ الجُمُعَةِ، لم يحسن. ولو قلت : خَرَجْتُ بِيَوْم سَعْدٍ وخَرَجَ ( بِيَوْمِ ) نَحْسٍ حَسُن فالنهارُ والليل لمّا لم يكن فيهما خُصُوصٌ وتقييد جازَ استعمالُ الباء فيهما، فإِذا قيدتهما وخصصتهما زال الجوازُ، و « يَوْمُ الجمعة » لمَّا كان فيه خصوص لم يجز وقلت : خَرَجْتُ بِيَوْم سَعْدٍ جاز. وأما « فِي » فيصح مطلقاً؛ لأن ما حصل في العام حصل في الخاص، لأن العام جزءٌ داخل في الخاص، فتقول : فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ وفِي هذِهِ السَّاعة. وأما اللام فتقدم الكلام عليها عند قوله :﴿ والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ﴾ [ يس : ٣٨ ].
فصل
وفائدة قَوْلِهِ :« هم » ؛ قال الزمخشري : فائدتها انْحِصَارُ المستغفرين أي هم الكاملون فيه لا غيرهم كقولك : زَيْدٌ العَالِمُ، لكماله في العلم كأنه تفرد به، وأيضاً : فلو عطف بدون هم لأوهم أنهم يستغفرون قليلاً. والاستغفار إما طلب المغفرة، كقولهم : رَبَّنا اغْفِرْ لَنَا، وإما إتيانهم بعبارات يتقربون بها طلباً للمغفرة، وإما أن يكون من باب قولهم : اسْتَحْصَد الزَّرْع أي ذلك أوان المغفرة.
قوله :﴿ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم ﴾ لمّا تقدم التعظيم لأم الله ثَنَّى بالشفقة على خلق الله، وأضاف الأموال إليهم، لأنه مدح لهم، وقال في موضع آخر ﴿ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾ [ الحديد : ٧ ] ؛ لأن ذلك تحريض وحث على النفقة وذلك يناسبه.
فإن قيل : كون الحق في المال لا يوجب مدحاً؛ لأن كون المسلم في ماله حقّ وهو الزكاة ليس صفة مدح، لأن كل مسلم كذلك بل الكافر إذا قلنا : إنه مخاطب بفروع الإسلام في ماله حق معلوم، غير أنه إذا أَسْلَمَ سقط عنه، وإن مات عُوقِبَ على ما تركه الأداء. وإن أَدَّى من غير إسلام لا يقع الموقع فكيف يفهم كونه مدحاً؟
فالجواب : أنا نفسر السائل بمن يطلب جزءاً من المَال وهو الزكاة والمَحْرُومُ من لا يطلب جزءاً معيّناً وهو طالب صدقة التطوع كأنه قال : في ماله زكاةٌ وصَدَقَةٌ.
أو يقالُ : بأن « في » للظرفية، والمعنى أَنّهم لاَ يجمعون المال ولا يجعلونه ظرفاً للحُقُوق، والمطلوب من الظرف والمظروف إنما هو المظروف وهذا مدح عظيم.