وقال المفسرون : قوم منكرون أي غُرَبَاء ولا نعرفكم.
قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما - ) قال في نفسه : هؤلاء قوم لا نَعرفهم. وقيل : إنما أنكر أمرهم، لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان. وقال أبو العالية : أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض.
فإن قيل : قال في سورة هود :﴿ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ ﴾ [ هود : ٧٠ ] فدل على أن إنكاره حصل بعد تقريب العِجْل إليهم وههنا قال :﴿ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ﴾، ثم قال :﴿ فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ ﴾ بفاء التعقيب، وذلك يدل على تقريب الطعام منهم بعد حصول إنْكَارِهِ فما وجهه؟
فالجواب : أن يقال : لعلهم كانوا مخالفين لِصفة الناس في الشكل والهيئة، ولذلك قال :« قوم منكرون »، ( أي ) عند كل أحد ( منا )، ثم لمّا امتنعوا عن الطعام تأكد الإنكار، لأن إبراهيم - ﷺ - تَفَرَّد بمشاهدة إمساكهم فنَكِرَهُمْ فوق الإنكار الأول.
وحكاية الحال في سورة « هود » أبْسَطُ مما ذكره ههنا، فإن هَهنا لم يبين المُبَشَّر به، وهناك ذكره باسمه وهو إسحاق وههنا لم يقل إن القوم قوم مَنْ، وهناك قال : قَوْم لوطٍ.
فصل
ذكر ههنا من آداب الضيافة تسليمَ المُضِيفِ على الضَّيف، ولقاءَه بالوجه الحسن، والمبالغةَ في الإكرام بقوله :« سلام »، وهو آكد، وسلامهم بالمصدر، وفي قوله : سلام بالرفع زيادة على ذلك ولم يقل سلامٌ عليكم؛ لأن الامتناع من الطعام يدل على أن العداوة لا تليق بالأنبياء فقال : سلام أي أمري مُسَالمة، ثم فيها من أدب الضيف تعجيل الضيافة، فإن الفاء في قوله :« فَرَاغ » يدل على التعقيب وإخفائها لأن الرَّوَغَانَ يقتضي الإخفاء وغيبة المُضِيفِ عن الضَّيْف ليستريح، ويأتي بما يمنعه الحياء منه، ويخدم الضيف بنفسه ويختار الأجود لقوله :« سَمِينٍ » ويُقَدِّم الطعام للضيف في مكانه لا ينقل الضيف للطعام لقوله :« فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ » ويَعْرض الأكل عليه لا يأمره لقوله :« أَلاَ تَأْكُلُونَ » ولم يقل : كُلُوا. وسروره بأكله كما يوجد في بعض البخلاء الذين يحضرون طعاماً كثيراً، ويجعل نظره ونظر أهل بيته إلى الطعام حتى يمسك الضيف يده عنه، لقوله :﴿ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ﴾ بعدم أكلهم.
ومن آداب الضيف إذا حضره الطعام ولم يكن يصلح له لكونه مضراً به، أو يكون ضَعِيفَ القوة عن هضم ذلك الطعام فلا يقول : هذا طعام غليظ لا يصلح لي بلْ يأتي بعبارة حسنة، ويقول : بي مانع من أكل الطعام، لأنهم أجابوه بقولهم : لا تخف، ولم يذكروا في الطعام شيئاً، ولا أنه يضّر بهم بل بشروه بالولد إشعاراً بأنهم ملائكة، وبشروه بالأشرف وهو الذكر حيث فهموه أنهم ليسوا ممن يأكلون.
ثم وصفوه بالعلم دون المال والجمال، لأن العلم أشرف الصفات ثم أدب آخر في البشارة وهو أن لا يخبر الإنسان بما يسرّهُ دَفْعةً واحدة، لأنه يورث رِضَاهُم، لأنهم جلسوا، واستأنس بهم إبراهيم، ثم قالوا : نُبَشِّركُ.