﴿ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله ﴾ [ هود : ٧٣ ]، ثم أرشدوها إلى القيام بشكر نعم الله بقولهم :« حَمِيدٌ » فإن الحميد هو الذي يفعل الأفعال الحسنة، والمجيد إشارة إلى أنه لا يحمد لفعله وإنما يحمد لذاته.
وههنا لما لم يقولوا : أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله أَشَارُوا إلى ما يدفع تعجبها بقولهم :« حكيم عليم ». فالحميد يتعلق بالفعل، والمجيد يتعلق بالذات، وكذلك الحكيم هو الذي فعله قاصداً إليه، فإن من يتقلب في النوم على حية فماتت لا يعد حكيماً، وأما إذا قصد قتلها بحيث يسلم من نهشها، يقال : إنه حكيم والعليم صفة راجعة إلى الذات، فقدم وصف الفعل وارتقى درجة إلى وصف الذات إشارة إلى أنه يستحق الحمد وإن لم يفعل فعلاً.
قوله تعالى :﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون ﴾ هذا أيضاً من آداب المُضِيف، إذا بادر الضيف إلى الخروج قال له : ما هذه العَجَلَةُ؟ وما شَأنُك؟ لأن في سُكُوته ما يوهم باسْتِثْقَالهم ثم إنّهم أتوا بما هو من أدب الصديق الذي لا يسر عن الصديق شيئاً، وكان ذلك بإذن الله لهم في إطلاع إبراهيم على إهلاكهم وجبر قلبه بتقديم البشارة بأبي الأنبياء إسحاق - ﷺ -.
فإن قيل : فما الذي اقتضى ذكره بالفاء ولِمَ لا قال : مَا هَذَا الاستعجال؟ ومَا خَطْبكُم المعجل لكم؟
فالجواب : أنه لما أوجسَ منهم خيفةً أو خرجوا من غير بشارة وإيناس ما كان يقول شيئاً فلما أَنِسُوه قال : ما خَطْبُكُم أي بعد هذا الأُنس العظيم ما هذا الإيحاش الأليم!
فصل
والخَطْب يُسْتَعْمل في الأمر العظيم، ولذلك قال : فَمَا خَطْبُكُم أي لعظمتكم لا ترسلون إلاَّ في أمر عظيم، ولو قال بلفظ مركب بأن يقول : ما شُغْلكم الخَطِيرُ وأمركم العظيم للزم التطويل فالخَطْبُ أفاد التعظيم مع الإيجاز وعرف أنهم مرسلون بقولهم :« إِنَّا أُرْسِلْنَا » أو بقولهم لامرأته :﴿ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ ﴾ لحكايتهم قول الله تعالى.
وقالوا في سورة هود :﴿ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ ﴾ [ هود : ٧٠ ] وقالوا هنا :﴿ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ﴾، لأن الحكاية عن معنى قولهم.
ويحتمل أنهم قالوا الأمرين ولما حكى لفظهم في السلام أتى في الموضعين بصفة واحدة.
والمُجْرم قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما - ) : هو المشرك، لأن الشرك أسرف الذنوب وأعظمها.
قال ابن الخطيب : المُجْرم هو الآتي بالذنب العظيم، لأن المجرم فيه دلالة على العظيم ومنه جُرْم الشيء لِعظَمِهِ ومقْدَاره.
قوله :﴿ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ﴾ فيه دليل على رَجْم اللائط. والفائدة في إرسال جماعة من الملائكة لهذا الأمر وإن كان يكفي فيه الواحد منهم، أنَّ الملك العظيم قد يهلك بالأمر الحقير كما هلك النُّمْرُود بالبَعُوض، وكما أُهْلِكَ بالقُمَّل والجَرَاد بل بالرِّيح التي بها الحياة إظهاراً للقدرة، وقد تكثر الأسباب كما في يوم بدر أُمِرَ خمسة آلاف من الملائكة بإهلاك أهل بدر مع قلتهم إظهاراً لعظيم قدرته.