قوله تعالى :﴿ حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا ﴾ « حتى » غاية ليُحْشَرُ والمعنى حتى إذا جاءوا النار فيكون « ما » صلة. وقيل : فيها فائدة زائدة وهي تأكيد وهي تأكيد أن عند مجيئهم لا بد وأن تحصل هذه الشهادة كقوله تعالى :﴿ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ ﴾ [ يونس : ٥١ ] أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به.

فصل


في كيفية تلك الشهادة ثلاثة أقوال :
الأول : أن الله تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه.
والثاني : أنه تعالى يخلق في تلك الأعضاء الأصوات والحروف الدالة على تلك المعاني.
الثالث : أن يظهر في تلك الأعضاء أحوال تدل على صدور تلك الأعمال من ذلك الإنسان وتلك الأمارات تسمى شهادات كما يقال : يشهد هذا العالم بتغيرات أحواله على حدوثه.

فصل


قال ابن الخطيب : والسبب في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر أن الحواسَّ الخمس وهي السمع والبصر، والشَّمُّ والذَّوْقُ واللمسُ، وآلة اللمس هي الجلد، فالله تعالى ذكر هاهنا ثلاثة أنواع من الحواس وهي السمع والبصر واللم، وأهمل ذكر نوعين، وهما : الذوق والشم، فالذوق داخل في اللّمس من بعض الوجوه؛ لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان مماسَّة لجرم ( الطعام وكذلك الشم لا يتأتى حتى تصير جلدة الحنك مماسةً لجرم ) المشموم فكانا داخلين في جنس اللَّمس. وإذا عرف هذا فنقول : نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج، وهذا من باب الكنايات، كما قال :﴿ لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً ﴾ [ البقرة : ٢٣٥ ] وأراد النكاح وقال :﴿ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط ﴾ [ النساء : ٤٣ ] والمراد قضاء الحاجة، وقال ﷺ :« أَوَّلَ مَا يَتَكَلَّمُ مِنَ الآدميِّ فَخِذُهُ وكَفُّه » وعلى هذال التقدير فتكون هذه الآية وعيداً شديداً في إتيان الزنا؛ لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالفخذ. وقال مقاتل : تنطق جوارحهم بما كتمته الأنفس من عملهم.
قوله :« وَقَالُوا » يعني الكفار الذين يحشرون إلى النار ﴿ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ هذا من جواب الجلود، ومعناه أن القادر على خلقكم وإنطاقكم في المرة الأولى حال كونكم في الدينا ثم ( على ) خلقكم وأنطقاكم في المرة الثانية وهي حال القيامة والبعث كيف يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء؟!
قوله تعالى :﴿ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ ﴾ أي تستخفون عند الإقدام على الأعمال القبيحة. وقال مجاهد تتقون، وقال قتادة : تظنون. قوله ﴿ أَن يَشْهَدَ ﴾ يجوز فيه أوجه :
أحدهما : من أن يشهد.
الثاني : خيفة أن يشهد.
الثالث : لأجل أن يشهد وكلاهما بمعنى المفعول له.
الرابع : عن أن يشهد أي ما كنتم تمتنعون ولا يمكنكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها.


الصفحة التالية
Icon