وهذا الوجه منقول عن الفراء والطبري.
وإذَا قِيلَ : بأن الضميرين أعني « اسْتَوَى » و « هُوَ » لجبريل فمعناه قام في صورته التي خلقه الله فيها ﴿ وهو بالأفق الأعلى ﴾، وذلك أن جبريل كان يأتي رسول الله - ﷺ - في صورة الآدميين كما كان يأتي النبيين، فسأله رسول الله ﷺ أن يُرِيهُ نفسه في صورته التي جُبِلَ عليها فأراه نفسه مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى وهو جانب المشرق وذلك أن محمداً - ﷺ - كان بِحرَاءَ فطلع له جبريلُ من المَشْرِق فسدَّ الأرض من المَغْرِب، فخر رسول الله - ﷺ - مَغْشِيًّا عليه فنزل جبريل في صورة الآدميين فضمه إلى نفسه، وجعل يمسح التراب عن وجهه وهو قوله :﴿ ثُمَّ دَنَا فتدلى ﴾.
وأما في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلاَّ محمداً - ﷺ -.
وقيل : معنى :« فَاسْتَوَى » أي استوى القرآن في صدره. وعلى هذا فيه وجهان :
أحدهما : فاستوى أي فاعتدل في قوته.
الثاني : في رسالته. نقله القرطبي عن المَاوَرْدِي. قال : وعلى هذا يكون تمام الكلام ذو مرة، وعلى الثاني شَدِيد القوى.
وقيل : اسْتَوَى أي ارتفع. وفيه على هذا وجهان :
أحدهما : أنه جبريل - ﷺ - أي ارتفع إلى مكانه.
الثاني : أنه النبي - ﷺ - أي ارتفع بالمعراج.
وقيل : معناه استوى أي الله تعالى استوى على العرش. قاله الحسن.
قوله :﴿ ثُمَّ دَنَا فتدلى ﴾ التدلي : الامتداد من علو إلى سفل، فيستعمل في القرب من العلو قاله الفراء، وابن الأعرابي.
وقال الهذلي :

٤٥٤٩- تَدَلَّى عَلَيْنَا وَهْوَ زَرْقُ حَمَامَةٍ لَه طِحْلِبٌ فِي مُنْتَهَى القَيْظِ هَامِدُ
وقال الشاعر :
٤٥٥٠-....................... تَدَلَّى عَلَيْنَا بَيْنَ سِبٍّ وَخَبْطَةٍ
ويقال : هُوَ كَالقِرِلَّى إنْ رأى خيراً تدلَّى وإن لم يَرَه تَوَلَّى.

فصل


في قوله :« دَنَا فَتَدَلَّى » وجوه :
أشهرها : أن جبريل - ﷺ - دنا من النبي - ﷺ - أي بعد ما مد جَنَاحَهُ « وهو بالأفق » عاد إلى الصورة التي كان يعتاد النزول عليها وقَرُب من النبي - ﷺ - وعلى هذا ففي « تَدَلَّى » وجوه :
الأول : فيه تقديم وتأخير أي تدلى من الأفق الأعلى فدنا من النبي - ﷺ -.
الثاني : أن الدُّنُوَّ والتَّدلِّي بمعنًى واحد فكأنه قال : دَنَا فَقَرُبَ.
وذهب الفراء إلى أن الفاء في قوله :( فَ ) تدلى بمعنى الواو، والتقدير : ثم تدلى جبريل - ﷺ - ودنا ولكنه جائزٌ إذا كان معنى الفعلين واحداً قدمتَ أيَّهُمَا شئتَ، فقلت : فَدَنَا فقرب، وقرب فدنا، وشتمني فأساء، وأَسَاءَ فَشَتَمَنِي؛ لأن الإساءة والشتم شيءٌ واحد وكذلك قوله :


الصفحة التالية
Icon