وغلب التنزيل على القرآن.
وقوله :« من ربّ » يجوز أن يتعلق به على الأول لا الثاني؛ لأن المؤكد لا يعمل، فيتعلق بمحذوف؛ لأنه صفة له.
وأما على قراءة « تَنزِيلٌ » بالرفع، فيجوز الوجهان.
قال القرطبي :« تنزيل » أي : منزل، كقولهم :« ضَرْب الأمير، ونَسْج اليمن ».
وقيل :« تنزيل » صفة لقوله تعالى :﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴾.
وقيل : خبر مبتدأ محذوف، أي : هو « تنزيل ».
قال ابن الخطيب : قوله « تنزيل » مصدر، والقرآن الذي في كتاب ليس بتنزيل، إنما هو منزل لقوله تعالى :﴿ نَزَلَ بِهِ الروح الأمين ﴾ [ الشعراء : ١٩٣ ]، فنقول : ذكر المصدر، وإرادة المفعول كثير، كقوله تعالى :﴿ هذا خَلْقُ الله ﴾ [ لقمان : ١١ ] وأوثر المصدر؛ لأن تعلق المصدر بالفاعل أكثر.
قوله :﴿ أفبهذا الحديث ﴾ متعلق بالخبر، وجاز تقديمه على المبتدأ؛ لأن عامله يجوز فيه ذلك، والأصل : أفأنتم مدهنون بهذا الحديث، وهو القرآن.
ومعنى « مُدْهِنُون » أي : متهاونون كمن يدهن في الأمر، أي : يلين جانبه، ولا يتصلب فيه تهاوناً به، يقال : أدهن فلان، أي : لاين وهاود فيما لا يجمل عنه المدهن.
قال أبو قيس بن الأسلت :[ السريع ]

٤٧١٢- الحَزْمُ والقُوَّةُ خَيْرٌ من الْ إدْهَانِ والفَهَّةِ والهَاعِ
وقال الراغب : والإدهان في الأصل مثل التدهين، لكن جعل عبارة عن المداراة والملاينة وترك الجدّ، كما جعل التَّقريد وهو نزع القراد عبارة عن ذلك.
قال القرطبي :« وأدهن وداهن واحد، وقال قوم : داهنت بمعنى واريت، وأدهنت بمعنى غششت ».
قال ابن عبَّاس :« مُدْهِنُون » أي : مكذبون. وهو قول عطاء وغيره.
والمدهن : الذي ظاهره خلاف باطنه، كأنه شبّه بالدهن في سهولة ظاهره.
وقال مقاتل بن سليمان وقتادة :« مدهنون » كافرون، نظيره :﴿ وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴾ [ القلم : ٩ ].
وقال المؤرِّج : المدهن : المنافق الذي يلين جانبه ليُخفي كفره.
والإدْهَان والمُداهنَة : التكذيب والكفر والنِّفاق.
وقال الضحاك :« مُدْهنون » معرضون.
وقال مجاهد : مُمَالِئُون الكُفَّار على الكفر به.
وقال ابن كيسان : المدهن : الذي لا يعقل ما حق الله عليه، ويدفعه بالعللِ.
وقال بعض اللغويين :« مُدْهنون » : تاركُون للجزمِ في قبول القرآن.
قوله :﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ ﴾.
فيه أوجه :
أحدها : أنه على التهكم بهم، لأنهم وضعوا الشيء غير موضعه، كقولك : شتمني حيث أحسنت إليه، أي : عكس قضية الإحسان.
ومنه :[ الرجز ]
٤٧١٣- كَأنَّ شُكْر القَوْمِ عندَ المِنَنِ كيُّ الصَّحِيحاتِ، وفقْءُ الأعيُنِ
أي : شكر رزقكم تكذيبكم.
الثاني : أن ثمَّ مضافين محذوفين، أي : بدل شكر رزقكم، ليصح المعنى.
قاله ابن مالك.
وقد تقدم في قوله تعالى :﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ ﴾ [ النجم : ٩ ] أكثر من هذا.
الثالث : أنَّ الرزق هو الشكر في لغة « أزد شنوءة » يقولون : ما رزق فلان فلاناً، أي : ما شكره، فعلى هذا لا حذف ألبتة.
ويؤيده قراءة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وتلميذه عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - :« وتَجْعَلُونَ شُكْركُمْ » مكان رزقكم.


الصفحة التالية