قال القرطبي :« وإنما صلح أن يوضع اسم الرزق مكان الشُّكر لأنَّ شكر الرِّزق يقتضي الزيادة فيه، فيكون الشكر رزقاً لهذا المعنى ».
قوله :﴿ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾.
قرأ العامة :« تُكذِّبُونَ » من التكذيب.
وعلي - رضي الله عنه - وعاصم في رواية المفضل عنه :« تكْذبُونَ » مخففاً من الكذب.
ومعنى الآية : أنكم مكذبون بالرِّزق، أي؛ تضعون الكذب مكان الشُّكر، كقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً ﴾ [ الأنفال : ٣٥ ]، أي : لم يكونوا يصلون، ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصَّلاة.
قال القرطبي : وفيه بيان أن ما أصاب العباد من خير، فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسباباً، بل ينبغي أن يروه من قبل الله - تعالى - ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة، أو صبر إن كان مكروهاً تعبداً له وتذلُّلاً.
وروى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قرأ :﴿ وتجعلون شكركم أنكم تكذبون ﴾ خفيفة.
وعن ابن عباس أيضاً : أن المراد به الاستسقاء بالأنواء، وهو قول العرب : مُطِرْنَا بنوءِ كذا، رواه علي بن أبي طالب عن النبي ﷺ.
وفي « صحيح مسلم » عن ابن عبَّاس قال :« مطر النَّاس على عهد رسول الله ﷺ فقال النبي ﷺ :» أصْبَحَ من النَّاسِ شَاكِرٌ ومنهُمْ كَافرٌ «.
فقال بعضهم : هذه رحمة الله؛ وقال بعضهم : لقد صدق نَوْء كذا وكذا، قال : فنزلت هذه الآية :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم ﴾ حتى بلغ ﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ ».
وعنه أيضاً :« أن النبي ﷺ خرج في سفر فعطشوا، فقال النبي ﷺ :» أرأيْتُمْ إن دعوْتُ اللَّهَ لكُم فسُقيْتُمْ لعلَّكمْ تقولون : هذا المطرُ بنَوْءِ كذا «، فقالوا : يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء. فصلّى ركعتين، ودعا ربه، فهاجتْ ريح، ثم هاجت سحابة فمطروا، فمر النبي ﷺ ومعه عصابةٌ من أصحابه برجل يغترف بقدح له، وهو يقول : سقينا بنوء كذا، ولم يقل هذا من رزق الله، فنزلت :﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ ».
أي : شكركم لله على رزقه إياكم أنكم تكذبون بالنعمة، وتقولون : سقينا بنوء كذا، كقولك : جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ، وجعلت إنعامي إليك أن اتَّخذتني عدُوًّا.
قال الشَّافعي : لا أحب لأحدٍ أن يقول : مُطِرنَا بنوء كذا، وإن كان النَّوْءُ عندنا الوقت المخلوق لا يضر، ولا ينفع، ولا يمطر، ولا يحبس شيئاً من المطر، والذي أحبّ أن يقول : مطرنا وقت كذا، كما تقول : مطرنا شهر كذا، ومن قال : مطرنا بنوءِ كذا، وهو يريد أن النَّوء أنزل الماء كما يقول بعض أهل الشِّرك فهو كافر، حلال دمه إن لم يَتُبْ.
وقيل : معنى قوله :﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ ﴾ أي : معاشكم وتكسبكم تكذيب محمد، كما يقال : فلان جعل قطع الطريق معاشه، فعلى هذا التَّكذيب عام، وعلى الأول التكذيب خاص والرزق في الأصل مصدر سمي به ما يرزق، كما يقال للمأكول : رِزْق، وللمقدور : قُدْرة وللمخلوق : خَلْق.