ولهذا قدمه الصحابة على أنفسهم وأقرُّوا له بالتقدم والسبق.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : سبق النبي ﷺ وثنى أبو بكر وثلث عمر، فلا أوتى برجل فضلني على أبي بكر إلا جلدته حد [ المفتري ] ثمانين جلدة وطرح الشهادة.

فصل في التقدم والتأخر في أحكام الدين


فإن قلت : التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدنيا، فأما في أحكام الدين فقالت عائشة رضي الله عنها : أمرنا رسول الله ﷺ أن ننزل النَّاس منازلهم. وأعظم المنازل مرتبة الصلاة.
وقد قال ﷺ في مرضه :« مُرُوا أبَا بَكْر فليُصَلِّ بالنَّاسِ ».
وقال :« يَؤم القَوْمَ أقرؤهُم لِكتابِ اللَّه ».
وقال :« وليؤمكما أكبركما ».
وفهم منه العلماء أنه أراد كبر المنزلة، كما قال ﷺ :« الوَلاَء للْكِبَرِ » ولم يَعْنِ كبر السن.
وقد قال مالك وغيره : إن للسن حقًّا، وراعاهُ الشَّافعي وأبو حنيفة، وهو أحق بالمراعاة.
وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين، فمن قدم في الدين قدم في الدنيا.
وفي الحديث :« ليْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوقِّر كبِيْرنَا ويرْحَمْ صَغِيْرَنا ويَعرفْ لِعَالِمنَا حقَّهُ ».
وفي الحديث أيضاً :« مَا أكْرَمَ شابٌّ شَيْخاً لسنِّهِ إلاَّ قيَّضَ اللَّهُ لهُ عِندَ سنِّهِ مَنْ يُكرمهُ ».
قوله :﴿ وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى ﴾.
قراءة العامة : بالنَّصب على أنَّه مفعول مقدم، وهي مرسومة في مصاحفهم « وكلاًّ » بألف.
وابن عامر : برفعه.
وفيه وجهان :
أظهرهما : أنه ارتفع على الابتداء، والجملة بعده خبره، والعائد محذوف أي : وعده الله.
ومثله :[ الرجز ]
٤٧١٦- قَدْ أصْبَحَتْ أمُّ الخِيَارِ تَدَّعِي عَلَيَّ ذَنْباً كُلُّهُ لَمْ أصْنَعِ
برفع « كلُّه » أي : لم أصنعه.
والبصريون [ رحمة الله عليهم ] لا يجيزون هذا إلاَّ في شعر، كقوله :[ السريع ]
٤٧١٧- وخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتِنَا بالحَقِّ لا يَحْمَدُ بالبَاطِلِ
ونقل ابن مالك الإجماع من البصريين والكوفيين على جواز ذلك إن كان المبتدأ « كُلاًّ » وما أشبهها في الافتقار والعموم.
قال شهاب الدين لم أره لغيره وقد تقدم نحو من ذلك في سورة « المائدة »، عند قوله تعالى :﴿ أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ ﴾ [ المائدة : ٥٠ ] ولم يرو قوله :« كله لم أصنع » إلا بالرفع مع إمكان أن تنصبه، فتقول :« كله لم أصنع » مفعولاً مقدماً.
قال أهل البيان : لأنه قصد عموم السَّلب لا سلب العموم، فإن الأول أبلغ، وجعلوا من ذلك قوله ﷺ « كُلُّ ذلِكَ لَمْ يَكُنْ ».
ولو قال : لم يكن كل ذلك، لكان سلباً للعموم، والمقصود عموم السَّلب.


الصفحة التالية
Icon