وقيل : هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه، وأكبر ما في أنفسهم مقدار السموات والأرض.
قاله الزجاج، وهو اختيار ابن عبَّاس.
وقال طارق بن شهاب : قال قوم من أهل « الحيرة » لعمر رضي الله عنه : أرأيت قول الله تعالى :﴿ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض ﴾ فأيْنَ النَّارُ؟ قال لهم عمر : أرأيتم الليل إذا ولَّى وجاء النهار، فأين يكون الليل؟ فقالوا : لقد نزعت بما في التوراة مثله.
قوله :﴿ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ ﴾ شرط الإيمان لا غير، والمعتزلة وإن زعموا أن لفظ الإيمان يفيد جملة الطَّاعات، لكنهم اعترفوا بأن لفظ الإيمان إذا عدي بالباء، فإنه باقٍ على مفهومه الأصلي وهو التصديق، فالآية حجة عليهم، ومما يؤكّد ذلك قوله تعالى بعده :﴿ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ﴾ فبين أن الجنة فضل الله يؤتيها من يشاء، سواء أطاع أم عصى.
فإن قيل : فيلزمكم أن تقطعوا بحصول الجنة لجميع العُصاة، وأن تقطعوا بأنه لا عقاب لهم؟ فالجواب : قلنا : نقطع بحصول الجنَّة، ولا نقطع بنفي العقاب عنهم؛ لأنهم إذا عذّبوا مدة، ثم نقلوا إلى الجنة، وبقوا فيها أبد الآباد، فقد كانت الجنَّة معدة لهم.
فإن قيل : فالمرتد قد آمن بالله، فوجب إلاّ يدخل تحت هذه الآية.
قلنا : فالجواب خص من العموم، فبقي العموم حجة فيما عداه.
فصل في أن الجنة مخلوقة أم لا؟
احتجوا بهذه الآية على أن الجنة مخلوقة.
قالت المعتزلة : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجهين :
الأول : أن قوله تعالى ﴿ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا ﴾ [ الرعد : ٣٥ ] يدل على أن من صفتها بعد وجودها ألا تفتى، لكنها لو كانت الآن موجودة لفنيت بدليل قوله تعالى ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ [ القصص : ٨٨ ].
الثاني : أن المخلوقة الآن في السماء السَّابعة، ولا يجوز إذا كانت في واحدة منها أن يكون عرضها كعرض كل السموات والأرض، فثبت بهذين الوجهين أنه لا بُدَّ من التأويل، وذلك من وجهين :
أحدهما : أنه - تعالى - لما كان قادراً لا يصحّ المنع عليه، وإذا كان حكيماً لا يصحّ الخلف في وعده، ثم إنه - تعالى - وعد على الطَّاعة بالجنة، فكانت الجنة كالمعدّة المهيّأة لهم تشبيهاً لما سيقع قطعاً بالواقع، كما يقول المرء لصاحبه : أعددت لك المكافأة إذا عزم عليها وإن لم يوجدها.
والثاني : أن المراد إذا كانت الآخرة أعدّها الله لهم، كقوله :﴿ ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة ﴾ [ الأعراف : ٥٠ ] أي : إذا كان يوم القيامة نادى.
والجواب : أن قوله :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ ﴾ [ القصص : ٨٨ ] عام.
وقوله :﴿ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٣٣ ] مع قوله :﴿ أُكُلُهَا دَآئِمٌ ﴾ [ الرعد : ٣٥ ] خاص، والخاصّ مقدّم على العام.
وأما قولهم : إنَّ الجنَّة مخلوقة في السماء السابعة كما قال - ﷺ - في صفة الجنة :« سَقْفُهَا عرْشُ الرَّحْمنِ » فأي استبعاد في أن يكون المخلوق فوق الشيء أعظم منه، أليس أن العرش أعظم المخلوقات، مع أنه مخلوق فوق السماء السابعة.
قوله :﴿ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ﴾ أي : أن الجنة لا تنال إلاَّ بفضل الله ورحمته، ﴿ والله ذُو الفضل العظيم ﴾.