وجوابه : ما تقدم من أنه لما كانت مكتسبة صح ذلك منها.
وقال أيضاً : وقيل : هو معطوف عليها، و « ابتدعوها » نعتٌ له، والمعنى : فرض عليهم لزوم رهبانية ابتدعوها، ولهذا قال :﴿ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله ﴾.
والوجه الثاني : أنها منصوبة بفعل مقدر يفسره الظَّاهر.
وقال أبو علي :« ابتدعوها رهبانية »، وتكون المسألة من باب الاشتغال، وإليه نحا الفارسي والزمخشري، وأبو البقاء وجماعة.
إلاَّ أن هذا يقال : إنه إعراب المعتزلة، وذلك أنهم يقولون : ما كان من فعل الإنسان فهو مخلوق له، فالرأفة والرحمة لما كانت من فعل الله نسب خلقهما إليه، والرهبانية لمَّا لم تكن من فعل الله - تعالى - بل من فعل العبد يستقلّ بفعلها نسب ابتداعها إليه.
ورد عليهم أبو حيَّان هذا الإعراب من حيث الصناعة، وذلك أن من حق الاسم المشتغل عنه ألاَّ يصلح للرفع بالابتداء، و « رَهْبَانية » نكرة لا مسوغ للابتداء بها، فلا يصلح نصبها على الاشتغال.
قال شهاب الدين : وفيه نظر لأنا لا نسلم أولاً اشتراط ذلك، ويدل عليه قراءة من قرأ :﴿ سُورَةً أَنزَلْنَاهَا ﴾ [ النور : ١ ] بالنصب على الاشتغال، كما تقدم تحقيقه، ولئن سلمنا ذلك فثمَّ مسوغ وهو العطف، ومن ذلك قول الشَّاعر :[ البسيط ]
٤٧٢٦- عِنْدِي اصْطِبَارٌ وشَكْوَى عِنْدَ قَاتلتِي | فَهَلْ بأعْجَبَ مِنْ هَذَا امْرُؤٌ سَمِعَا؟ |
٤٧٢٧- تَغَشَّى ونَجْمٌ قَدْ أضَاءَ فَمُذْ بَدَا | مُحَيَّاكِ، أخْفَى ضَوْءُهُ كُلَّ شَارِقِ |
و « الرَّهْبَانية » : منسوبة إلى « الرَّهْبَان »، وهو « فَعْلاَن » من رهب، كقولهم : الخَشْيَان من خشي، وقد تقدم معنى هذه المادة في سورة « المائدة ».
وقرىء بضم الراء.
قال الزمخشري : كأنها نسبة إلى « الرُّهْبَان »، وهو جمع : راهب، ك « راكب، ورُكْبان ».
قال أبو حيان : والأولى أن يكون منسوباً إلى « رَهْبَان » - يعني بالفتح - وغيِّر؛ لأنَّ النَّسب باب تغيير، ولو كان منسوباً ل « رُهْبَان » الجمع لردّ إلى مفرده إلاَّ إن قد صار كالعلم، فإنه ينسب إليه ك « الأنصار ».
فصل في المراد بالرهبانية
والمراد من الرهبانية : ترهُّبُهم في الجبال فارِّين من الفتنة في الدين متحملين كلفاً زائدة على العبادات التي كانت واجبة عليهم من الخلوة، واللِّباس الخَشِن، والاعتزال عن النساء، والتعبُّد في الغيرانِ والكهوف.
روى ابن عباس أن في أيام الفترةِ بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - غيَّر الملوك التوراة والإنجيل، فراح نفرٌ، وبقي نفر قليل، فترهبوا وتبتلوا.
قال الضحاك : إن ملوكاً بعد عيسى - ﷺ - ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة، فأنكرها عليهم من كان بقيَ على منهاج عيسى فقتلوهم، فقال قوم بقوا بعدهم : نحن إذا نهيناهم قتلونا، فليس يسعُنَا المقام بينهم، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصَّوامع.