وقد ذهب بعض الناس إلى أن ذلك في أول الإسلام؛ لأن ذلك كان حال المنافقين، فيتناجى المنافقون دون المؤمنين، فلما فشا الإسلام سقط ذلك.
وقال بعضهم : ذلك خاصّ بالسفر، وفي المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه، فأما في الحضر وبين العمارة فلا؛ لأنه يجد من يعينه، بخلاف السفر فإنه مظنَّة الاغتيال وعدم الغوث. والله أعلم.
قوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس ﴾ الآية.
وجه التعلق، لما نهى المؤمنين عما يكون سبباً للتباغُضِ والتنافر، أمرهم الآن بما يصير سبباً لزيادة المحبَّة والمودة.
وقال القرطبي : لما بين أنَّ اليهود يحيوه بما لم يحيّه الله، وذمّهم على ذلك وصل به الأمر بتحسين الأدب في مجالسة رسول الله ﷺ حتى لا يضيقوا عليه المجلس، وأمر المسلمين بالتَّعاطف والتَّآلف حتى يفسح بعضهم لبعض حتى يتمكّنوا من الاستماع من رسول الله ﷺ والنظر إليه.
فصل في نزول الآية
قال قتادة ومجاهد والضحاك رضي الله عنهم : كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله ﷺ فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب.
وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب : كان النبي ﷺ إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه - رضي الله عنهم - على الصف الأول فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال والشهادة، فنزلت، فيكون كقوله تعالى :﴿ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ﴾ [ آل عمران : ١٢١ ].
وقال مقاتل : كان النبي ﷺ في « الصفة » وكان في المكان ضيق، وكان يكرم أهل « بدر » من المهاجرين والأنصار فجاءنا أناس من أهل « بدر » وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا قبالة رسول الله ﷺ على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف رسول الله ﷺ ما يحملهم على القيام، وشقّ ذلك على رسول الله ﷺ فقال ﷺ لمن حوله من غير أهل « بدر » :« قُمْ يا فُلانُ » بعدد القائمين من أهل « بدر » فشقّ ذلك على من قام، وعرف النبي ﷺ الكراهة في وجوههم. فقال المنافقون : والله ما عدل على هؤلاء أن قوماً أخذوا مجالسهم، وأحبوا القرب منه، فأقامهم وأجلس من أبْطَأ، فنزلت الآية يوم الجمعة.
وروي عن ابن عبَّاس قال نزلت الآية في ثابت بن قيس بن شماس، وذلك أنه دخل المسجد، وقد أخذ القوم مجالسهم، وكان يريد القرب من رسول الله ﷺ للوَقْر الذي كان في أذنيه، فوسعوا له حتى قرب من النبي ﷺ ثم ضايقه بعضهم وجرى بينهم وبينه كلام ووصف الرسول ﷺ محبته للقرب منه ليسمع كلامه، وإن فلاناً لم يفسح له، فنزلت هذه الآية.