قوله تعالى :﴿ استحوذ ﴾. جاء به على الأصل، وهو فصيح استعمالاً، وإن شذ قياساً.
وقد أخرجه عمر - رضي الله عنه - على القياس، فقرأ :« اسْتَحَاذَ » ك « استبان ». وتقدم هذه المادة في « النساء » في قوله تعالى :﴿ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ﴾ [ النساء : ١٤١ ].
قال الزجاج :« اسْتَحْوَذَ » في اللغة استولى، يقال : حذت الإبل، إذا استوليت عليها وجمعتها.
وقال المبرد :« استحوذ على الشيء : حواه وأحاط به ».
قيل : المعنى غلب عليهم الشيطان بِوسْوستِهِ في الدنيا.
وقيل : قوي عليهم فأنساهم ذكر الله، أي : أوامره في العمل بطاعته.
وقيل : زواجره في النهي عن معصيته، والنِّسيان قد يكون بمعنى الغَفْلة، ويكون بمعنى الترك، والوجهان محتملان هاهنا، ﴿ أولئك حِزْبُ الشيطان ﴾ : طائفته ورهطُه ﴿ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخَاسِرُونَ ﴾ في بيعهم؛ لأنهم باعوا الجنة بجهنم، وباعوا الهدى بالضلالة.
فصل فيمن استدل بالآية على خلق الأعمال
احتجّ القاضي بهذه الآية في خلق الأعمال من وجهين :
الأول : أن ذلك النسيان لو حصل بخلق الله - تعالى - لكان إضافتها إلى الشيطان كذباً.
الثاني : لو حصل ذلك بخلق الله لكانوا كالمؤمنين في كونهم حزب الله لا حزب الشيطان.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ ﴾ تقدم أول السورة.
﴿ أولئك فِي الأذلين ﴾. أي : من جملة الأذلاء لا أذلّ منهم؛ لأن ذل أحد الخصمين يدلّ على عز الخصم الثاني، فلما كانت عزة الله - تعالى - غير متناهية كانت ذلة من ينازعه غير متناهية أيضاً.
قوله تعالى :﴿ كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي ﴾.
يجوز أن يكون « كَتَبَ » جرى مجرى القسم، فأجيب بما يجاب به.
وقال أبو البقاء : وقيل : هي جواب « كتب »؛ لأنه بمعنى « قال ».
وهذا ليس بشيء؛ لأن « قال » لا يقتضي جواباً، فصوابه ما تقدم.
ويجوز أن يكون « لأغلبن » جواب قسم مقدر، وليس بظاهر.
فصل في تفسير الآية
قال المفسرون :﴿ كتب الله لأغلبن ﴾ أي : قضى الله ذلك.
وقيل : كتب في اللوح المحفوظ قاله قتادة.
وقال الفراء :« كتب » بمعنى « قال ».
وقوله :« أنا » توكيد، « ورسلي » من بعث منهم بالحرب، فإن الرسول بالحرب غالب، ومن بعث منهم بالحُجّة غالب أيضاً، فإذا انضم إلى الغلبة بالحجة الغلبة بالحرب كان أغلب وأقوى.
قال مقاتل : قال المؤمنون : لئن فتح الله لنا « مكة » و « الطائف » و « خيبر » وما حولهن رجَوْنَا أن يظهرنا الله - تعالى - على « فارس » و « الروم »، فقال عبد الله بن أبيّ ابن سلول : أتظنون « الروم » و « فارس » كبعض القرى التي غلبتم عليها، والله إنهم لأكثر عدداً وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك، فنزلت :﴿ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي ﴾.