وقيل : إن المسلمين كانوا إذا ظهروا على دربٍ من دروبهم خربوه، وكان اليهود يتأخرون إلى ما وراء بيوتهم وينقِّبُونها من وراء أدبارهم.
وقيل : إن المسلمين كانوا يخربون ظواهر البلد، واليهود لما أيقنُوا بالجلاء، فكانوا ينظرون إلى الخشبةِ في منازلهم مما يستحسنونه، أو الباب فيهدمون بيوتهم، وينزعونها، ويحملونها على الإبل.
فإن قيل : ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين؟.
قلت : لما عرضوهم لذلك، وكانوا السبب فيه، فكأنهم أمروهم به وكلفوه إياهم.
وقال الزهري :« يخربون بيوتهم » بنقض المواعدة، « وأيدي المؤمنين » بالمقاتلة.
وقال أبو عمرو بن العلاء :« بأيديهم » في تركهم لها، « وأيدي المؤمنين » في إجلائهم عنها.
قوله تعالى :﴿ فاعتبروا ياأولي الأبصار ﴾.
والاعتبار : مأخوذ هنا من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، وبهذا سميت العبرةُ عبرةً؛ لأنها تنتقل من العين إلى الخدِّ، وسمي علم التعبير؛ لأن صاحبه ينتقل من المتخيّل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات؛ لأنها تنقل المعاني عن لسان القائل إلى عقلِ المستمع.
ويقال : السعيد من اعتبر بغيره؛ لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه.
ولهذا قال المفسرون : الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها.
وقوله تعالى :﴿ يا أولي الأبصار ﴾.
قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد أهل اللُّب والعقل والبصائر.
قال الفراء : أي من عاين تلك الوقائع والأبصار جمع البصر.
ومن جملة الاعتبار هنا أنهم اعتصموا بالحُصُون من الله، فأنزلهم الله - تعالى - منها، وسلط عليهم من كان ينصرهم، وأنهم هدموا أموالهم بأيديهم، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر في نفسه.
واستدل الأصوليون بهذه الآية على وجوب العمل بالقياس.
وقوله تعالى :﴿ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء ﴾.
العامة : على مده وهو الإخراج.
يقال : أجليت القوم، وجلا هو جلاء.
وقال الماوردي : الجلاء أخصّ من الخروج؛ لأنه لا يقال إلا لجماعة، والإخراج يكون للجماعة والواحد.
وقال غيره : الفَرْق بينهما أن الجلاء كان مع الأهل والولد، بخلاف الإخراج فإنه لا يستلزم ذلك.
وقرأ الحسن وعلي ابنا صالح :« الجَلاَ » بألف فقط.
وطلحة : مهموزاً من غير ألف ك « النبأ ».
والمعنى : أنه لولا أنه قضى أنه سيجليهم عن ديارهم، وأنه يبقون مدة، فيؤمن بعضهم ويولد لهم من يؤمن ﴿ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدنيا ﴾ أي : بالقتل كما فعل بإخوانهم « بني قريظة »، والجلاء مفارقة الوطن يقال : جلا بنفسه جلاء، وأجلاه غيره إجلاء.
وأما قوله :﴿ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابُ النار ﴾، فهو كلام مبتدأ غير معطوف على ما قبله، إذ لو كان معطوفاً على ما قبله لزم ألا يوجد؛ لأن « لولا » تقتضي انتفاء الجزاء لحصول الشرط.
قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ ﴾.
أي : عادوه وخالفوا أمره.
﴿ وَمَن يُشَآقِّ الله ﴾.
قرأ طلحة بن مصرف، ومحمد بن السميفع : بالفك، كالمتفق عليه في الأفعال، وأدغم الباقون.
والمقصود من الآية الزَّجْر.