﴿ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي : حسداً وبغضاً، ﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ﴾. للتبليغ فقط بخلاف قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ [ العنكبوت : ١٢ ] فإنها تحتمل ذلك وتحتمل العلة.
فصل
قال القرطبي رحمه الله : هذه الآية سبب التعجب من اغترار اليهود لما وعدهم المنافقون من النصر معهم مع علمهم بأنهم لا يعتقدون ديناً ولا كتاباً.
قال المقاتلان : يعني عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وعبد الله بن نبتل، ورفاعة بن زيد، وقيل : رفاعة بن تابوت، وأوس بن قيظي، كانوا من الأنصار ولكنهم نافقوا، ومالوا ليهود قريظة والنضير.
والإخوان : هم الإخوة، وهي هنا تحتمل وجوهاً :
أحدها : الأخوّة في الكفر؛ لأن اليهود والمنافقين اشتركوا في عموم الكفرِ بمحمد ﷺ.
وثانيها : الأخوّة بسبب المصادقة والموالاة والمعاونة.
وثالثها : الأخوّة بسبب اشتراكهم في عداوة محمد ﷺ.
فقالوا لليهود :﴿ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ ﴾ من المدينة ﴿ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ ﴾.
وقيل : هذا من قول بني النضير لقريظة، وقولهم :﴿ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً ﴾ يعنون محمداً ﷺ قالوا : لا نطيعه في قتالكم.
وفيه دليل على صحة نبوّة نبينا محمد ﷺ من جهة الغيب؛ لأنهم أخرجوا فلم يخرجوا معهم، وقوتلوا فلم ينصروهم كما قال سبحانه وتعالى :﴿ والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ في قولهم وفعلهم.
فقولهم :﴿ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً ﴾ أي : في قتالكم أو في خذلانكم.
قوله تعالى :﴿ وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ ﴾.
أجيب القسم المقدر، لأن قبل « إن » لام موطئة حذفت للعلم بمكانها، فإنَّ الأكثر الإتيان بها، ومثله قوله :﴿ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ﴾ [ المائدة : ٧٣ ] وقد تقدم.
قوله تعالى :﴿ لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾.
أجيب القسم لسبقه، ولذلك رفعت الأفعال ولم تجزم، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه، ولذلك كان فعل الشرط ماضياً.
وقال أبو البقاء رحمه الله : قوله تعالى :﴿ لاَ يَنصُرُونَهُمْ ﴾ لما كان الشرط ماضياً ترك جزم الجواب انتهى. وهو غلط؛ لأن ﴿ لاَ يَنصُرُونَهُمْ ﴾ ليس جواباً للشرط بل جواب القسم، وجواب الشرط محذوف كما تقدم وكأنه توهم أنه من باب قوله :[ البسيط ]
٤٧٥١- وإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ... يَقولُ : لا غَائِبٌ مَالِي ولا حَرِمُ
وقد سبق أبا البقاء ابنُ عطية إلى ما يوهم شيئاً من ذلك، ولكنه صرح بأنه جواب القسم، فقال :« جاءت الأفعال غير مجزومة في » لا يخرجون ولا ينصرون «؛ لأنها راجعة على حكم القسم لا على حكم الشرط، وفي هذا نظر ».